محمد سلماوى
الأسلحة المحرمة فى اليونسكو
اتصل بى مندوب إحد المواقع الإخبارية أثناء وجودى فى باريس لمتابعة معركة اليونسكو ليسألنى عن ملاحظاتى على المعركة الانتخابية، فقلت له إن من يتابع الدورة الحالية لانتخابات المدير العام انما يشاهد العجب الذى لم تعرفه المنظمة من قبل، حيث تم استخدام أسلحة محرمة دوليا، فإلى جانب سلاح الرشاوى المحرم فى الانتخابات والذى يشار اليه تأدبا بتعبير المال السياسى، وقد كان موجودا فى السابق، لكنه وصل هذا العام الى حدود غير مسبوقة، قدرتها جريدة «لو كانار أنشينيه» بعشرات الملايين من الدولارات، فقد وجدنا كلا من الولايات المتحدة وإسرائيل تلجآن على الجانب الآخر الى سلاح محرم هو الآخر وهو الابتزاز السياسى الذى لا أعرف إن كان يشار اليه تأدبا بتعبير آخر، وقد وصل الابتزاز الى حد اعلان الولايات المتحدة، انسحابها من اليونسكو قبيل الجولة الأخيرة من الانتخابات، بحجة الاعتراض على مناصرة اليونسكو للعرب اللذين اقترب إثنان منهما من الفوز لأول مرة بمنصب المدير العام، ولم يخف على أحد أن اختيار هذا التوقيت بالذات كان بهدف التأثير على نتيجة الانتخابات، وما هى الا ساعات معدودة واتبعت اسرائيل كالببغاء نفس الأسلوب فأعلنت أنها ستنسحب هى الأخرى ولنفس السبب.
ولست أعرف لماذا انفردت الولايات المتحدة بين مختلف دول العالم باتهام اليونسكو بالانحياز ضد اسرائيل؟ وقد يحق لنا أن نتساءل ماذا سيكون موقف الولايات المتحدة لو أن هناك بالفعل منظمة دولية منحازة ضد هولندا مثلا أو باكستان أو النرويج؟ هل ستنسحب منها أيضا؟ وَمِمَّا يثير السخرية أن السبب الثانى الذى ساقته الولايات المتحدة لانسحابها من اليونسكو هو أن المنظمة تتعرض لأزمة مالية بسبب تراكم الديون، ذلك أن أحد أسباب الأزمة المالية التى تواجهها المنظمة هو أن بعض الأعضاء لا يدفعون اشتراكاتهم السنوية، وأول هؤلاء الأعضاء هى الولايات المتحدة نفسها والتى تراكمت مستحقاتها لليونسكو حتى وصلت الى نصف مليار دولار. ولست أعرف مرة أخرى من الذى سمح للولايات المتحدة أَن تُمارس جميع حقوقها داخل المنظمة وهى لا تقوم بواجباتها؟ كيف سمح لها أن تدخل المجلس التنفيذى الذى يقوم بانتخاب المدير العام، وأن تتمتع بحق التصويت أيضا، وهى تمتنع عاما وراء عام عن دفع حصتها السنوية فى ميزانية المنظمة؟
لقد كان من الغريب ألا تعلن الولايات المتحدة عن انسحابها من اليونسكو كما فعلت قبل ذلك حين انسحبت بسبب قبول المنظمة عضوية فلسطين، وإنما ما أعلنته هذه المرة هو أنها سوف تنسحب فى نهاية العام، وهو ما يجعل إعلانها بمثابة تهديد ينفذ بعد أكثر من شهرين، ما لم تستجد فى الأمور أمور، وخاصة أن هذا التهديد لم يجيء إلا بعد أن تقدمت أصوات المرشحة المصرية فى انتخابات المدير العام حتى تعادلت مع أصوات المرشحة الفرنسية، بينما تقدم المرشح القطرى عن كل منهما، مع أن الأزمة المالية التى تتعرض لها اليونسكو ليست جديدة، كما أن الاتهام بالانحياز ضد اسرائيل رددته الولايات المتحدة كثيرا طوال الأعوام الماضية، فلماذا جاء هذا التهديد الآن إن لم يكن بغرض لى ذراع أعضاء المنظمة وسط المعركة الانتخابية.
وقد جاء هذا الابتزاز الأمريكى/الاسرائيلي بعد حملة خفية نفذتها دوائر الضغط اليهودية منذ تم ترشيح وزيرة ثقافة الرئيس الفرنسى السابق ذات الأصول اليهودية أودرى أزولاى، لتتصدى لهذا التحيّز المزعوم ضد اسرائيل، وقاد تلك الحملة مجلس المنظمات اليهودية الفرنسية CRIF، حيث وصلت لذروتها خلال المعركة الانتخابية حين صرح مندوب إسرائيل فى اليونسكو بأن العرب (مصر وقطر) يمثلون خطرا على اليونسكو.
وكانت فرنسا قد كثفت ضغوطها فى اليومين الأخيرين للانتخابات بدرجة كبيرة بعد أن تجمدت أصوات المرشحة الفرنسية عند رقم ١٨ بينما ظلت أصوات المرشحين العربيين تتزايد بشكل مضطرد من جولة تصويت الى أخرى، والذين كانوا قريبين من وفد الحملة المصرية يعرفون أن مندوب احدى الدول الغربية اعتذر عن عدم الاستمرار فى مساندة مصر حيث جاءته من بلاده تعليمات جديدة فى الأيام الأخيرة للانتخابات تطالبه بالتصويت لفرنسا، وذلك على أثر اتصال تم على المستوى الرئاسى من باريس، ومن المعروف أن ال CRIF كانت قد أعلنت مساندتها للرئيس إيمانويل ماكرون وقت كان مرشحا للرئاسة الفرنسية، وأنها طلبت منه فى المقابل الالتفات لمشكلة اليونسكو التى شكا المجلس اليهودى من أنها تصدر القرار تلو الآخر ضد ما يتعرض له التراث الإنساني فى الأراضى العربية المحتلة، وتغيير الطابع العربى له بعملية تهويد منظمة لم يكن لليونسكو المعنية بالتراث أن تتجاهلها، من هنا كان تمسك ماكرون بمرشحة فرانسوا أولاند التى قوبلت بعدم ارتياح من الدوائر الفرنسية ذاتها.
هذا هو بعض ما واجهته مصر فى معركة اليونسكو التى خاضتها بشرف، والتزمت فيها بالقواعد المتعارف عليها، فلم يؤخذ على أدائها ملاحظة واحدة طوال الحملة الانتخابية.
لقد تجاهلت مصر الشنط السوداء التى لاحظ عدد من أعضاء وفدنا تداولها بين بعض الأعضاء خلال المعركة الانتخابية، كما عزفت مصر عن محاولات التأثير على نتيجة الانتخابات بلى الذراع أو الابتزاز، فلكل الدول مصالح فى مصر قد تزيد أو تنقص من دولة الى أخرى، وقد تتراوح ما بين المصالح الاقتصادية الى تنسيق المواقف السياسية وحتى التنقيب عن الآثار، وقد كان من الممكن أن تكشر مصر عن أنيابها فى أى من هذه المجالات، لكنها فضلت أن تخوض المعركة بأسلحتها المشروعة، فركزت على كفاءة مرشحتها، وعلى أحقية مصر فى المنصب برصيدها الحضارى الفريد، وعلى ما تستطيع مصر أن تقدمه للعالم من خلال اليونسكو.
واذا كان سلاح النابالم المحرم دوليا قد أحدث تأثيره فى حرب فيتنام، رغم خسارة أمريكا للحرب، وإذا كانت القنابل العنقودية قد أحدثت تأثيرها فى الحرب على غزة رغم خسارة اسرائيل للرأى العام العالمى، فإن الأسلحة المحرمة دوليا أحدثت تأثيرها فى الانتخابات أيضا وقد كانت الخسارة هذه المرة من نصيب منظمة اليونسكو نفسها والتى لم تعد كما كانت، فالنتيجة التى أسفرت عنها الانتخابات تنبيء بأن اليونسكو ستشهد مرحلة جديدة تماما فى تاريخها، تختلف كثيرا عما عرفناه طوال أكثر من ٧٠ عاما، وهذا هو موضوع المقال القادم.