ليس هناك دين أكثر حرصًا على نشر ثقافة السلام بين البشر، أكثر من دين الإسلام، فرسالته إلى العالم هى السلام، «وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِى مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»، تحيته هى السلام، «السلام عليكم ورحمة الله»، دعوته قائمة على المحبة والسلام، وليس على العنف والإكراه، «لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ»، فلا يكره أحدًا كائنًا من كان على الدخول إليه، لا يشرَّع فيه القتال إلا دفاعًا، ومقاومة، ولا يبرر الاعتداء على أحد بأى شكل من الأشكال، «وَقَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ»، فقيد القتال بقيد شديد هو الاعتداء، لا يكون إلا لدفع الاعتداء.
هذا النهج الذى أرسى الإسلام دعائمه، وترسخت جذوره على مدار السنين، كان أول من وضع لبنته النبى صلى الله عليه وسلم، فأحدث خلال ٢٣ سنة فقط، تغييرًا عميقًا غير مسبوق فى تاريخ البشرية.. تغييرًا اجتماعيًا شاملًا.. تغييرًا أخلاقيًا هائلًا.. تغييرًا كليًا فى العقيدة.. تعديلًا جذريًا فى وضع المرأة من الوأد إلى القيادة.. نهضة علمية هائلة وصلت أوروبا عن طريق الأندلس.. جمع العرب كلهم، وأسقط المسلمون إمبراطوريتى الفرس والروم، والعجيب أن كل ذلك تم بتكلفة قليلة جدًا، وبحجم تضحيات فى الأرواح محدودة للغاية.
فقد بلغ عدد غزوات النبى ٢٧ غزوة، وبلغ إجمالى عدد قتلى المسلمين فيها ٢٥٩، وإجمالى عدد قتلى المحاربين له ٧٥٩، أى أن إجمالى القتلى فى كل معارك النبى ١٠١٨، بمعدل ١٢ قتيلًا فى كل معركة، وعدد قتلى النساء واحدة فقط، بينما لم يسقط أى قتلى من الأطفال والشيوخ، وهذه من أخلاقيات الحرب فى الإسلام، فالنبى كان يُوصى أصحابه: «لا تقتلوا صبيًا ولا امرأة ولا شيخًا كبيرًا ولا مريضًا ولا راهبًا ولا تقطعوا مُثمرًا ولا تخربوا عامرًا ولا تذبحوا بعيرًا ولا بقرة إلا لمأكل ولا تٌغرقوا نحلًا ولا تحرقوه».
كيف حدث ذلك؟
النبى حول الحروب الطويلة لاستراتيجية عسكرية جديدة اسمها غزوة، ومعنى الغزوة ساعات قليلة تدور فيها المعركة، فبلغ إجمالى عدد ساعات الحرب لـ٢٧ غزوة (٤٢ ساعة فقط)، لا توجد معركة استمرت أكثر من ٥ ساعات، فرض النبى طريقة عسكرية إبداعية جديدة، ليقل عدد القتلى من الطرفين.
لم تكن حروب النبى حروب تخريب، كالحروب الأخرى التى يحرص فيها المتقاتلون من غير المسلمين على إبادة مظاهر الحياة لدى خصومهم، أو التعطش إلى سفك الدماء فى حروب تستمر لسنوات طويلة، كما فى الحرب بين الروم والفرس، التى استمرت من ٦٠٢ إلى ٦٢٨م، وسقط فيها ٢ مليون قتيل، وحرب الصين خلال الفترة ما بين ٧٣٤ و٧٥٥م، وراح ضحيتها ١٢ مليون قتيل، حرب الفجار (٦ حروب) سقط فيها ١٠٠ ألف قتيل. والثورة الفرنسية حتى تُحدث تغييرًا اجتماعيًا وسياسيًا، قتل فيها ٢ مليون، والثورة البلشفية بروسيا سقط فيها ١٣ مليونًا، أما الرسول عليه الصلاة والسلام فحقق أعظم إنجاز بأقل تكلفة ١٠١٨، خلال الحروب التى خاضها المسلمون مع أعدائهم.
حتى فى معاملة عدوه، كان حريصًا على إظهار رحمة وأخلاق الإسلام، فكان يرفض، بل يحذّر أصحابه من التمثيل بجثث القتلى؛ فعن عمران بن الحصين رضى الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقة وينهانا عن المُثلة»، وعلى الرغم ما تعرضت له جثة عمه حمزة بن عبدالمطللب من تشويه بعد استشهاده فى غزوة «أحد»، فإنه رفض الرد بالمثل، لأنه نبى الرحمة والتسامح.
ولا عجب حين نعرف أن الحرب فى الإسلام هى آخر الحلول التى يتم اللجوء إليها، بعد اللجوء إلى كل الطرق السلمية الأخرى، وكانت فى الأصل لمواجهة الخطر الذى يحيط بالدولة الإسلامية الوليدة وقتها ليقضى عليها، ثم إن الفرس والروم لم يكونوا أصحاب البلاد فى مصر والعراق والشام، بل كانوا محتلين ظالمين، والمسلمون لم يحاربوا أهل تلك البلاد، بل حاربوا المحتل ورفعوا الظلم عن أهلها ثم قالوا لهم: «لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ».
وقد ورد ذكر السلام فى القرآن الكريم بصيغ مختلفة فى أربعين ومائة موضع، «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِى السِّلْمِ كَافَّةً»، «وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا»، «لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ»، و«ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ»، فى حين أن لفظ الحرب لم يرد فيه إلا ست مرات فقط، والمسلمون يقولون كل يوم وليلة لفظ السلام عشر مرات؛ اقتداءً بالنبى إذا انصرف من صلاته؛ حيث كان يقول: «اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام».
كانت حياة النبى وكل اختياراته السلام والرحمة والتسامح، رفض أى عنف أو صدام فى مكة لأنه مؤمن بالسلام، حتى عندما دخلها فاتحًا، رفض إراقة الدماء، دخلها سلمًا دون قتال، ولو كان ميالًا للقتال لخاض فيمن ألحقوا به الأذى، وحاصروه وحاربوه وأكرهوه على الهجرة من أحب بلاد الله إليه قتالًا وتقتيلًا، لكنه أبى إلا أن يصفح ويعفو، فقال لهم: «ما تظنون أنى فاعل بكم؟»، فقالوا: «خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم»، فقال: «لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ»، لم يؤذِ أحدًا من قريش فى نفسه أو ماله، فحفظ الأنفس من القتل أو السبى، وأبقيت على الأموال المنقولة والأراضى بيد أصحابها.
وقبل أن يهاجر، وهو فى مكة، لو أراد أن ينتصر لشخصه وهو له ما له من الأهل والعشيرة لفعل، فلم يكن ضعيفًا كما يظن البعض وقتها، أو لا يملك القوة، لهذا لم يلجأ للصدام، فالحقيقة أن مكة وهى مجتمع قبلى، وكان هو من أقوى فرع فى قريش «بنى هاشم»، لكنه لم يستغل هذه النقطة للصراع حتى لا يفكك بلده وتندلع حرب أهلية بين أهلها، تحمل الإيذاء فقط. ولم يلجأ للعنف، حتى عندما جاءه الدعم الإلهى من السماء، فى تلك اللحظة التى شعر فيها بالحزن مما يفعله به أعداء الإسلام، وقال له ملك الجبال: «إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين»، فقال له الرسول: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا».
بعد هجرته إلى المدينة، لم يذهب لقتال قريش، لكن هم الذين جاءوا إليه، فقاتلهم فى «بدر» و«أحد» و«الخندق»، وكانت كلها على حدود المدينة، وعلى الرغم من ذلك كان يدعو لهم: «اللهمَّ أهد قومى فإنهم لا يعلمون»، فاستجاب الله له فى فتح مكة: «إذَا جَاءَ نَصر اللَّه وَالَفتح * وَرَأَيتَ النَّاسَ يَدخلونَ فى دين اللَّه أَفوَاجًا * فسَبّح بحَمد رَبّكَ وَاستَغفره إنَّه كَانَ تَوَّابًا».
بعد أن وصل إلى المدينة، قبل النبى أن يعيش اليهود فيها، وعقد معهم اتفاقًا، وأقر لهم حقوقًا تحميهم، لم يجبرهم على اعتناق الإسلام، بل ترك لهم حرية الاختيار، وتعاهد معهم على أن يدافعوا معًا ــ مسلمين ويهودًا ــ عن المدينة ضد أى خطر خارجى تتعرض له، لم ينقض اتفاقه معهم، فقد كان حريصًا على التعايش السلمى، ومع ما لاقاه منهم، إلا أنه لم يبادر إلى نقض الاتفاق، حتى نقضوه هم، وأخلوا بالاتفاق معه.