الأهرام
عبد الجليل الشرنوبى
عن جنس نملة النبى سليمان!
بعد استشهاد الإمام الحسين بن علي، كان على عامة المواطنين الذين خذلوه، أن يلجأوا إلى تخدير للضمائر يعينهم على مواجهة فاجعة ما حل من مصائر، وفى ذلك يُرْوَى عن عبد الله بن عمر، أن وفداً من أهل العراق دخل عليه يسأل، عن حكم قتل الذبابة فى الحرم، فما كان من ابن عمر إلا أن أجاب (عجباً لكم يا أهل العراق! تقتلون ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتسألون عن دم البعوض)!.

إن هكذا نموذج من أسئلة التخدير تسود فى مواقيت الهروب من أسئلة المصير المُلِّحة، وإيماناً بأن الوطن المصرى بكامل مكوناته فى حالة استهداف، غير منفصلة عن واقع استهداف كامل المنطقة والإنسانية، فإن أول ما يلجأ إلى المستَهْدِف، هو تشتيت وعى المستهدَف عن سؤال المصير، حتى و إن كان هذا السؤال، يسوق إلى ألا ملجأ من الله إلا إليه.

وإن كانت الأمة المصرية، ذات التاريخ الضارب فى جذور الإنسانية، تخطو نحو استرداد السيادة والريادة، فى درب عسير من استهدافات الداخل والخارج، يصبح فرضاً على (صُنّاع الوعي)، أن يتصدروا مشهد صياغته فى ضوء قاعدة حاكمة هى (توحيد) الجبهة الداخلية فى مواجهة مؤامرات التفتيت الداخلى منها والخارجي، وهو ما يدعو للتأمل فى مشهد (إعلام المرحلة)، بعيداً عن تصنيف تأييد النظام أو معارضته، وإيماناً بأن الاختلاف الإنسانى أصل، وفى ذلك يقول الحق جل فى علاه «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ»، ويقيناً بأن الحضارة الإنسانية نتاج خطاب بناءٍ يسعى لإصلاح الحياة «وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ».

ومما لاشك فيه أن خطاباً مُشَتِتاً قد تم فرضه على واقعنا، وأسهم فى التسويق له ظهور وسائل التواصل الاجتماعى الإلكترونية، والتى اعتمد استثمارها سلبياً ضدنا، على تجاوز الأطر التقليدية للخطاب الإعلام السائد، واستطاعت قبل 2011م، أن تصنع نجوماً جددا تحت مسميات بدأت بـ (مدوِّن) ثم تطورت لتصبح فيما بعد 2011م (ناشط ـ خبير ـ مستشار)، ولأن العنوان العريض للمشروع المُسْتَهدِف هو (الفوضي)، فلقد كان التسويق لهذا المشروع معتمِداً على ترويج إنتاج يُعَمِق مشهد الفوضى عبر تشتيت الانتباه عن القضايا ذات الأولوية، وترسيخ مشهد الانقسام بداية من الدين وانتهاء بالتعصب لناد كروي، وبينهما تستعر نيران التفرق فلا يتوحد المجتمع، ويتكاثف الضباب فى أفق الرؤية فلا يتنبه الراعى والراعية، وتتابع الأوجاع فلا تترك فضل وقت لأمل.

أمام هكذا تحديات يتعاظم دور صِنَاعَة الوعي، ملقياً بتبعات جسام على صُنّاعِه سواء كانوا مؤسسات أو أفراد، بحيث تكون المهمة الأولى هى رفع واقع الوطن والمجتمع والتحديات التى تواجه الجميع بداية من الإدارة وانتهاء بالأفراد، مع رسم صورة دقيقة لواقع الوعى الجمعى الذى تعرض للتجريف على مدى عقود متتابعة من شيوع الفساد والإفساد، وهى البداية التى تقود إلى تحديد أولويات المرحلة بما يتيح علاج الخلل وجبر الكسر واسترداد المصرى الذى كان وتطوير أدواته فى الألفية الثالثة ليكون.

وبمكاشفة تُعين على المُضِى صوب الهدف، فإن الإرهاب الذى تحاربه مصر، لا يستهدف تمكيناً لحكمه قدر ما يستهدف تمكيناً لمشروع الفوضى لإنتاج (عالم جديد) يُعيد صياغة تبعية الأوطان لعالم أحادى القطب، ويُرسخ سلب المقدرات والثروات وحتى الثقافات لصالح استعمار متطور، المحتل فيه متوارٍ، وجيوشه بالإنابة من بنى جلدتنا يرفعون راية (الجهاد)، وخطابه يسرى عبر قنوات يرعاها النظام العالمي، وعبر إعلام إلكترونى يفتح أبوابه لنشر جراثيم التطرف، وعبر تواصل شخصى يحمل رسائل التشكيك والشائعات والتفتيت فى كل مكان بداية من وسائل النقل العامة وانتهاء بحوارات ربات البيوت فى الأسواق، وهكذا يُصبح أول مكونات الدولة (المواطن) فى المواجهة المباشرة مع العدو، يواجه بوعى تجرف، وباحتياج لأبسط أبجديات الحياة، ومن خلفه تتحرك إدارة الدولة مثقلة بمهام الحماية والبناء مضافاً إليهما مهمة التوضيح والتبرير والتكذيب، بينما تنشغل آلات صناعة الوعى برصد تجليات الفوضى باعتبارها السلعة الرائجة فى عصر (الفوضى الخلاقة).

وهنا ترتقى حاجة أمتنا لصناعة وعى المرحلة من مرتبة الفضل إلى الفرض، ليصبح الإعلام سلاحاً ماضياً فى وجه ثقافات الفوضى المتربصة، بما يفرض (ميثاق شرف إعلامى وطني) طالت الحاجة إليه رغم النص عليه فى إعلان (ثورة 30 يونيو) الصادر فى 3 يوليو 2013، وبما يضمن تفعيلاً حقيقيا لسلاح الإعلام، وتحصيناً جميعاً لعقول الوطن، وتحجيماً واقعياً لخطاب التخدير القادر على تجاوز كارثة بحجم (مقتل الإمام الحسين بن علي) عبر التساؤل عن (حكم قتل الذبابة فى الحرم)، وإقراراً عملياً بتَنَبُه القائمين على صناعة الوعى فلا ينجرفون إلى أسئلة التخدير دون أن يواجهوا مُصْدِريها بحقيقة واقعهم كما فعل ابن عمر، ولا ينساقون خلف ترف الأسئلة فراراً من مُرها، ولا ينشغلون بمصائر ما كان عن مصير ما هو كائن، حتى لا يستيقظ الجميع على خطر يدق كل الأبواب بينما الرأى العام منشغل بالنملة التى خاطبت نبى الله سليمان هل كانت ذكراً أم أنثي؟!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف