جمال سلطان
حقوق الإنسان .. الاتهام الذي يلاحق السيسي دوليا
من جديد ، وفي لقائه الصحفي مع الرئيس الفرنسي ماكرون ، كرر الرئيس عبد الفتاح السسيسي هروبه من استحقاقات ملف "حقوق الإنسان" في مصر ، بالحديث عن أن مصر هي "منطقة أخرى" غير فرنسا وأوربا ، وأن مصر تعاني الفقر والتخلف وسوء الحالة الصحية والتعليمية والإسكانية وفرص العمل ، ولماذا لا تسألوني عن تلك الحقوق ، أليست حقوقا إنسانية ، وبطبيعة الحال فهذه الإجابة تعني اعترافا ضمنيا من الرئيس بانهيار منظومة حقوق الإنسان السياسية في مصر ، كما انهارت منظومات التعليم والصحة والإسكان وغيره ، وهو ما يعني بوجه آخر ، أن الاتهام بانتهاك حقوق الإنسان في مصر اتهام حقيقي ولا يتم نفيه من الرئيس ، ولكنه يعتب على الآخرين أنهم يركزون على هذا الجانب وحده ، في حين أن هناك جوانب من حقوق الإنسان الاجتماعية والاقتصادية منهارة أيضا ومتردية في مصر ولا أحد هناك يسأل عنها .
مشكلة هذا النوع من الإجابات أنه مهين للشعب المصري نفسه ، ووصمه بأنه متخلف حضاريا وجاهل وجائع ومريض ، وأمامه أشواط طويلة في التحضر لكي يستحق أن يكون "إنسانا" مثل المواطن الأوربي وبالتالي يستحق أن ينال أو حتى يطالب بالحقوق السياسية التي ينعم بها غيره من الشر ، والأكثر إيلاما أن يكون هذا الكلام على لسان الرئيس المصري نفسه ، وقد لاحظ بعض المتابعين لكلام السيسي ـ بحق ـ أن هذه اللغة وهذا الكلام الجارح هو نفسه منطق الاستعمار الغربي قديما عندما غزا الشرق لأنه شرق متخلف وجاهل وفقير ومريض وبالتالي يصبح سلوك الاستعمار في سحقه وتركيعه وحرمانه من الحرية والحقوق الإنسانية التي يتمتع بها الإنسان الغربي ضرورة لتمدينه ونقله إلى الحضارة ، هذه إهانة حقيقية لمصر ، وأرجو أن تتوقف هذه النوعية من الإجابات لأن من يشجع السيسي عليها يورطه ، كما أنها إهانة لا يليق أن يوجهها حاكم لشعبه ، فضلا عن أن تكون هي الاسطوانة الدائمة في كل زيارة خارجية للرئيس للهرب من الالتزام باستحقاق "إنساني" لشعبه يطارده العالم في كل زيارة لكي يسأله عن غيابه .
أيضا ، هذه الإجابة تفتح سيلا من الأسئلة الأخرى الضرورية ، فإذا كان رئيس مصر يدرك أنها تعاني من انهيار منظومة التعليم والصحة والتوظيف والإسكان وغيرها ، فما الذي فعلته طوال أربع سنوات لإنقاذ هذا الوضع ، ما هي الميزانيات الضخمة التي ضاعفتها لتلك القطاعات من أجل إنقاذها مما هي فيه وما هي برامجك وخططك وإنجازاتك فيها ، وإذا كنت مقتنعا بأن تلك القطاعات تمثل الجانب الاجتماعي والاقتصادي لحقوق الإنسان الضرورية ، فلماذا أدرت لها ظهرك وتجاهلتها أو همشتها في مقابل اهتمامك بإنفاق مئات المليارات على مدن جديدة بإمكانيات ترفيهية عالية لنخبة صغيرة من الناس ، ولماذا الإنفاق على تفريعة للقناة لم تضف أي عائد اقتصادي على الإطلاق لمصر بل تسببت في انهيار العملة الوطنية وأهدرت عليها أموالا طائلة ، فضلا عن الإنفاق الضخم على السلاح ، في حين أن المنطق والبديهة أن تكون أولويتك ـ التي اعترفت بها أمام العالم ـ أن تنقذ التعليم والصحة والإسكان وتوسع من منظومة الإنتاج لتوفير فرص عمل للملايين من العاطلين ، وإذا كنت عجزت عن أن تحقق ذلك لمواطنيك ، لسبب أو آخر ، فما مبرر الاستمرار .
الحديث عن الأولويات في حقوق الإنسان ، على النحو الذي قدمه السيسي أمام ماكرون ، لا يقنع أحدا في الداخل أو الخارج ، فما وجه التعارض بين أن تسعى لتحسين منظومة الصحة وبين أن تحترم حرية الإعلام والصحافة ، ما الذي يضطرك لغلق القنوات الفضائية أو محاصرة الصحف وحجب المواقع الإخبارية ، وإذا كانت بلدك تعاني من انهيار منظومة التعليم لماذا تغلق المكتبات العامة التي أقامتها جمعيات أهلية لمجرد أن أصحابها معارضون لك ، هل قراءة الأطفال في القصص والكتب الصغيرة في تلك المكتبات سيعطل جهدك في بناء مدارس وتحسين ظروف المعلمين وتوفير أدوات تطوير العملية التعليمية ، من يمكنه أن يقتنع بمثل هذا الكلام .
وهل تحقيق الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي لبسط حقوق الإنسان في هذا الجانب يستوجب وجود كل هذا المئات بل الآلاف من أساتذة الجامعات والصحفيين والنشطاء والمعارضين في السجون ، ويبقى أحدهم سنوات عديدة دون أي حكم أو أفق ، ونفصل قوانين وإجراءات لا تمت للعدالة بصلة ، ثم نقول أنهم أمام القضاء المستقل ، ونحول القضاء إلى شماعة نعلق عليها أخطاءنا وقسوتنا ، والقضاء من ذلك براء ، لأن أصل الإشكال في من وضع القوانين واللوائح والإجراءات ، وليس في القضاء نفسه .
لا أحد من أصحاب القرار في البلد الآن يريد أن يعترف بالخطأ ، وبالتالي لا وعود جادة في الإصلاح ، كلهم أنبياء ، كلهم ملائكة ، كلهم لا يسألون عما يفعلون ، لا برامج ولا خطط ولا جداول زمنية ، كله على التساهيل ، اصبروا معنا سنتين ثلاثة أو ثلاثين سنة وسترون كيف تكون البلد ، وإن سألتهم فأنت غير وطني ، وربما متآمر أو خائن أو عميل ، وإن لم يعجبك حال البلد ابحث لك عن بلد آخر ومع السلامة ، وقد قالوها بالفم الملآن .