حسن ابو طالب
إعلام الأزمة أم أزمة الإعلام؟
يتألم كثيرون من الوضع الذى آل حال الإعلام المصرى، تقريباً فى كل أشكاله وأنواعه، التغطية الإعلامية والصحفية البائسة للمواجهة بين الشرطة وخلية إرهابية التى جرت الجمعة الماضى فى طريق الواحات بكل ما فيها من بؤس المعلومات وضعف التحليلات وشيوع المغالطات و«الفبركات» المقصودة أو غير المقصودة والتسريبات غير المهنية، وترك الحبل على الغارب أمام كل من هب ودب ليدلى بوجهة نظر متخيلة بدون معلومات دقيقة، والتركيز على ملء فراغات الوقت وجذب المشاهد ولو على حساب الوطن وأمنه، كل ذلك جسد أزمة وطن وأزمة إعلام وأزمة مهنة على نحو خطير، المزعج والمقلق أن هذه الأزمات المتداخلة تحدث فى مرحلة دقيقة من عمر الوطن تفرض أداء مهنياً ذا طابع خاص، يراعى حالة الحرب مع عدو شبحى يعمل بآليات شبكية وتوظيف جيد لوسائل الاتصال الحديثة، ووراءه عقول وتمويل داخلى وخارجى وتسليح وتدريب ومعلومات واختراقات وأجهزة استخبارات، فضلاً عن الخطط المُعدة لتفكيك الأوطان لغرض إخضاعها وإعادة هيكلتها بما يتناسب مع الأهداف البعيدة لتلك القوى الشبحية.
قطاع كبير من الذين يتألمون ويجاهرون بوجود مشكلة كبرى فى الأداء الإعلامى هم من الإعلاميين والصحفيين أنفسهم. المشاهدون والقراء الذين يحافظون على عادة القراءة وتصفح الجرائد بصورة يومية يتألمون أيضاً، هذا التقييم العام بين أرباب المهنة وبين المتلقين يكشف بكل جسارة أن المنظومة الإعلامية ككل تعانى خللاً جسيماً، ويشارك فيها ومسئول عنها الإعلاميون أنفسهم، الذين هم نتاج طبيعى للظروف التى تمر بها المؤسسات الإعلامية والصحفية والتشريعات الراهنة وكذلك الهيئات الثلاث المستحدثة وفقاً للدستور. الكثير من الأفكار والدراسات التى تطرح الحلول العملية موجودة وموثقة، لكن لا حياة لمن تنادى، والمفارقة المزعجة للغاية أن الشعور العام بأن مصر فى حرب أو فى إحدى درجات الحروب، لا يوازيه تطوير مهنى فى الأداء الإعلامى سواء للقائمين بالعملية الإعلامية أو للجهات الرسمية والسيادية ذات الصلة بالمواجهة، ومن وراء ذلك رأى عام متعطش لمعلومة دقيقة تشفى غليله، لا يجدها من مصادرها المعنية فيلجأ إلى أى وسيلة أخرى للحصول على تلك المعلومة، من مصادر أجنبية أو غرف الدردشة أو وسائل التواصل الاجتماعى التى لا ضوابط فيها ومعرضة للاختراق والتلاعب وبث ما لا صلة له بالواقع أو طبيعة الحدث، لكن المواطن مغلوب على أمره، فالمعنيون تجاهلوه، وهو بدوره وقع فى شرك معلوماتى بدون قصد.
هذه الدورة معروفة وليست جديدة، تكررت من قبل عدة مرات، وفى كل مرة كان البعض منا يتصور أن هناك فكراً جديداً ستتم بلورته، لكننا لم نر له أثراً، بدليل تكرار الأزمة بالتفاصيل ذاتها والملابسات ذاتها والتداعيات ذاتها، فضيلة التعلم من الأزمات تبدو غائبة تماماً فى العقل الإعلامى المصرى، كان يفترض أن القائمين على المنظومة الإعلامية ككل يجتهدون معاً فى وضع ضوابط ومنظومة أداء تراعى حق المواطن فى المعلومة، وفى الآن نفسه مراعاة طبيعة المواجهة والحرب المفروضة على الوطن.
منظور الإدارة يقول لنا إن المخرجات الإعلامية والصحفية هى نتاج طبيعى للحالة التى عليها المؤسسات المعنية، وهى مؤسسات مأزومة مليئة بالمشكلات البنيوية اقتصادياً وإدارياً ومهنياً بما فى ذلك التى يمتلكها رجال أعمال، والحديث عن تطوير الأداء والبحث عن حلول لهذه المشكلات أصبح نوعاً من «طق الحنك» الذى يُرضى شكلاً ولكنه فاقد المضمون عملياً، فلا توجد خطط ودراسات وبرنامج عمل وآليات تنفيذ زمنية وأسلوب للمتابعة والتقييم لكشف التعثر أولاً بأول والبحث عن حلول ومخارج لاستكمال المستهدف، الشعور الغالب على القائمين على الإعلام والصحافة هو أن الأزمات معقدة وفتح ملفاتها يتطلب الكثير من الموارد غير المتاحة، ومواجهة مراكز قوى داخل المؤسسات مستفيدة من أوضاعها الراهنة، وهو ما لا يمكن التجرؤ عليه، وبالتالى يظل الوضع على ما هو عليه، بل عملياً يزداد سوءاً مع مرور الوقت، ويزداد معه الإحباط العام بين العاملين بكل تصنيفاتهم، ويزداد التراجع، والخاسر فى النهاية هو الوطن،
النادر من المؤسسات الإعلامية والصحفية القائمة هو من يواكب التطورات الكبرى فى الأداء الإعلامى فى الدول والمجتمعات الأخرى لغرض التعلم من خبرات الآخرين، وتطبيق ما يمكن تطبيقه ويناسب الوضع الذاتى، والنادر منها من لديه برنامج تدريبى مستمر لخلق كوادر صحفية وإعلامية تتناسب مع طبيعة الدور المفترض فى ظل بيئة مجتمعية ومعلوماتية سريعة التغير، المفاهيم الحديثة فى التواصل الإعلامى مع المجتمع وفى التنظيم الداخلى للمؤسسة غائبة تماماً، الاعتماد على النجم الأوحد الجاذب للمشاهدة أو للقراءة يجسد تلك الأزمة بدون أدنى جدل، وغياب المحاسبة للمسئولين عن كل تلك المشكلات ولو معنوياً وإدارياً يؤدى فى الواقع إلى تغييب مبدأ الثواب والعقاب، وبالتالى تتساوى الرؤوس، من يعمل ويجتهد، ومن لا يعمل ويعرض المؤسسة والوطن للخطر، والنتيجة قدر هائل من اللامبالاة وضعف المنتج الإعلامى.
فى ظل أوضاع كهذه للمؤسسات الإعلامية والصحفية يصبح طبيعياً «تشوه» الرسالة الإعلامية والصحفية المُقدمة للمواطن، أو على الأقل عدم توازنها، ويزداد التشوه نظراً للحالة غير الطبيعية متمثلة فى حالة الحرب الشبحية التى عليها البلاد، والتى لا تعكس نفسها على فكر الإعلاميين وأدائهم وفقاً لمعايير المسئولية المجتمعية، ومن ثم تحدث المبالغات بنفس القدر الذى تحدث فيه الأخطاء والخطايا، مطلوب وقفة مع النفس يقوم بها الإعلاميون والصحفيون من خلال مؤسساتهم ونقاباتهم، بدون مزايدات وبدون ضغوط من هذا الطرف أو ذاك، وبدون توظيف لعلاقات أو مصالح خاصة على حساب مصالح المهنة والوطن، إعمال ضوابط العمل الإعلامى والصحفى طوعياً يظل هدفاً نبيلاً، لكنه لن يحدث ما لم «يُنشأ» عليه الإعلامى والصحفى من خلال برنامج تدريبى مؤسسى ونقابى إلزامى وليس اختيارياً لمن يرغب أو لمن لديه وقت فراغ، الحفاظ على المهنة لم يعد ترفاً بل ضرورة قصوى.
الالتزام الطوعى لتلك الضوابط لا يعنى أبداً التحايل به على القانون، فمن يُخطئ يُحاسب على قدر الخطأ وفقاً للقانون والمبادئ الدستورية، فمهنة بلا قانون لا تعد مهنة أصلاً، وهنا مسئولية البرلمان الذى لم يعط بعد الأهمية المناسبة لإصدار قانون شامل للصحافة والإعلام يراعى كل المتغيرات المهنية والإصلاحات الهيكلية المطلوبة لمؤسسات الإعلام ككل، خاصة وقومية، فما كان يصلح فى القرن الماضى هو من الماضى وليس الحاضر أو المستقبل.