د . أحمد عاطف
فيكتوريا بين الشرق والغرب!
كثيرة هى الافلام التى تقدم صورة الشرق من وجهة نظر غربية، وقد ازدادت بكثرة فى السنوات الاخيرة لدرجة أنها أصبحت ظاهرة، صحيح أن السينما هى إبداع فردى، لكن كل الدراسات المتعمقة، سواء أكاديمية أو نقدية، تحلل الفيلم ليس فقط من خلال عالم صانعه، لكن أيضا من خلال ظروف إنتاجه وجهة تمويله والثقافة الغالبة لدى صناعه، وهل هو فيلم موجه أم هو فيلم حر. وأصبح هذا الباب جزءا أساسيا من دراسات الشرق والغرب التى هى من أهم مجالات البحث فى تاريخ الانسانية. وقد ظل البروفيسور جاك شاهين الامريكى من أصل عربي يكرس جل أبحاثه وحياته العلمية لاكتشاف صورة العرب فى السينما العالمية خاصة الامريكية. وأخرج عدة كتب رائعة تحلل بعمق الصورة الذهنية للعرب من خلال الأفلام الغربية خلال القرن العشرين، ربما أهمها هو: «شرائط العرب الأشرار: كيف تهين هوليوود أمة». وقد مشى كاتب هذه السطور على درب جاك شاهين، وأصدر كتابا بعنوان «صورة العرب فى السينما العالمية بعد 11 سبتمبر» يحلل فيه أهم الأفلام التى قدمت فى السينما العالمية بعد هذا التاريخ وتناولت شخصيات عربية.
وقد خرج أخيرا للشاشات فيلم جديد من هذه النوعية وهو يحمل اسم «فيكتوريا وعبدول» لكنه لا يقدم هنا شخصية عربي بل شخصية هندى مسلم اسمه عبد الكريم الذى ساقته الاقدار ليكون المرشد الروحى لفيكتوريا «ملكة انجلترا السابقة». والفيلم يقدم معالجة كوميدية مستندة على كتاب للصحفي الهندى «شرابانى باسو» وهو نتاج أبحاثه وما عثر عليه فى المنزل الصيفي للملكة فيكتوريا، وكذلك ما وجده من مذكرات هذا الهندى المسمى عبدالكريم فى منزله التى لم تنشر قط والتى حافظت عليها أسرته من بعد وفاته. جاء الفيلم حميما ورقيقا الى حد بعيد. يفتتح اولى مشاهده بتقديم ملكة تجاوزت الثمانين من العمر وتبدو مريضة وفى حالة ملل من الحياة وتفاصيلها داخل القصر بعد سنوات طويلة قضتها فى الحكم. يعاملها الجميع كطفلة من اول ايقاظها من النوم حتى طقوس ارتدائها للملابس وإطعامها، على الجانب الآخر، نكتشف الرجل الهندى الذى يعمل مجرد كاتب بمدينة اجرا ويتم اختياره مصادفة لتقديم «عملة» هندية تاريخية فى اليوبيل الذهبى للملكة الانجليزية عام 1887. فى الاحتفال المقصود، يلفت عبدول نظر الملكة وتقرر اتخاذ الهندى خادما شخصيا لها، وتتوطد العلاقة بينهما شيئا فشيئا حتى ترتاح له تماما وتقرر تغيير وظيفته الى «مونشي» أى مرشد روحي لها. وتدور الاحداث حول هذا القرب وكيف أصبح يزعج كل من فى القصر وعلى رأسهم الحاشية المقربة للملكة وابنها «برتى» أو ادوارد السابع وريث عرشها، وتدور بشكل متواز مع الاحداث قصة اخرى تعضد الفكرة وهى قصة محمد وهو خادم هندى اخر جاء مع زميله عبد الكريم لكنه على العكس منه، يكره انجلترا باعتبارها كيانا استعماريا يستعبد بلاده، ويعد الايام طول الوقت لكى يعود فيها الى الهند، ولا يتورع عن التعبير عن كراهيته لانجلترا امام كائن من كان حتى لو كانت الملكة او وريث عرشها. وتتحول تلك القصة الى المنحى التراجيدى عندما يموت الخادم محمد بسبب عدم تعوده على الطقس البارد بانجلترا وسوء حالة الربو لديه، وبالحبكة ايضا خط مهم آخر وهو المرارة التى تعتري صراع الطبقات هناك، وهو ما يستمر فى انجلترا حتى هذا اليوم.
العلاقة الانسانية شديدة الخصوصية بين فيكتوريا وعبد الكريم هى علاقة سامية بكل معنى الكلمة يغلفها الود وتسودها الرحمة ويكللها التفاهم. مخرج الفيلم هو ستيفن فريرز احد اعظم المخرجين الاوروبيين الكبار صنع مسيرة حافلة قدم فيها اعمالا خالدة اصبحت من كلاسيكيات السينما العالمية.وقد قدم فيلمه بنسيج رقيق بدون صوت صاخب ولا صراخ درامى. مجرد علاقة انسانية راقية بين سيدة على مشارف الموت وجدت ضالتها فى انسان نقي لا يريد منها شيئا. وعندما شوهوا صورة عبدول امامها وقالت لها حاشيتها انه مجرد كاتب بسجن وليس من عائلة علماء ومعلمين كما ادعى لها، وانه مصاب بالسيلان، فتقول لهم انه مجتهد وعالجوه فورا. اصر فريرز على إبعاد أى ملمح لعلاقة عاطفية من الملكة تجاه عبدول فجعلها تطلب منه إحضار زوجته وحماته لمنزلها الصيفى للاقامة معهم بانجلترا، واعتنت بأسرته ايما عناية عندما عاشت معهم. لم تنهر الملكة امام ابنها وحاشيتها الذين هددوها بإعلان جنونها اذا أصرت على بقاء عبدول وتحدتهم جميعا وكسبت الرهان. لكن ما ان اقترب الموت منها، جرى ابنها لطرد عبدول واسرته سريعا من القصر وحرق كل متعلقاته بدون اى رحمة. فيكتوريا وقفت أمام محيطها العنصرى أمام خادم مسلم أصبح مقربا من الملكة.