الأهرام
طه عبد العليم
ثورة أكتوبر الاشتراكية: فترة الانتقال
سجلت فى مقالى السابق أن بناء اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية ــ كقوة عظمى واجهت القوة العظمى الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، وقادت المنظومة الاشتراكية العالمية فى مواجهة المنظومة الرأسمالية العالمية ــ ارتكز الى انجازات لا تنكر للتصنيع الاشتراكى رغم فداحة الثمن الإنسانى؛ كما كان أمر التصنيع الرأسمالى فى زمن الثورة الصناعية. وكان التصنيع وما صاحبه من تنمية شاملة وتطوير للتعليم والبحث العلمى والتكنولوجى وما لازمه من بناء القدرة على التصنيع العسكرى ركيزة الانتصار السوفييتى على النازية، وأساس بناء القدرة العسكرية والنووية السوفيتية بما حقق توازن الردع مع أمريكا.

وسأوجز فى مقالين لاحقين الانجازات والاخفاقات الاقتصادية وغير الاقتصادية للنظام الاشتراكى السوفيتى، وأركز هنا على عرض أهم ملامح فترة الانتقال، خاصة ما سمى السياسة الاقتصادية الجديدة، التى جمعت بين رأسمالية الدولة والرأسمالية الخاصة. وأسجل، أولا، أن مقدمات ثورة أكتوبر الاشتراكية قد تعززت بدفع سياسات الحكومة المؤقتة روسيا إلى حافة الكارثة. ففى عام 1917 انخفض إجمالى الإنتاج الصناعى بنسبة تزيد على 36 فى المائة عما كان عليه في عام 1916، وتم إغلاق نحو 50 فى المائة من جميع الشركات فى جبال الأورال ودونباس والمراكز الصناعية الأخرى، وارتفعت معدلات البطالة وتكاليف المعيشة بشكل حاد، وتراجعت الأجور الحقيقية للعمال الى نحو 50 في المائة عما كانت عليه فى عام 1913، ومع تضاعف المديونية كانت روسيا تواجه خطر الإفلاس. وفى فترة الانتقال، فى ظل ما سمى «السياسة الاقتصادية الجديدة» (النيب)، جرى إحياء مقيد للرأسمالية فى ظل سيطرة الدولة على القمم القائدة للاقتصاد الوطنى وعلى رأس المال الخاص فى مجرى رأسمالية الدولة، وجرى تأسيس شركات مختلطة، وتأجير المشروعات الصغيرة لرأس المال الخاص، وجذب رأس المال الأجنبى واقامة مشروعات للامتيازات الأجنبية. فقد أدى النقص المريع للسلع الزراعية الغذائية فى المدن لإضعاف القوة السياسية للسلطة نزوح العمال إلى الريف، وترتب على نقص المواد الخام الزراعية كبح نهوض وإحياء الصناعة، ولمواجهة هذا اتخذت إجراءات لضبط وتنظيم استخدام الفلاحين للأرض، حيث أدى تقليص حدود الأرض المخصصة لكل فلاح بعد الاصلاح الزراعى الى تقويض الدورات الزراعية، وانخفاض الانتاجية جراء تشتيت الإنتاج، وجاء التجميع الزراعى ضرورة اقتصادية. فالفلاحون الفقراء رغم حصولهم على الأرض لم يحوزوا فى غالب الأحوال ماشية عاملة ولا تجهيزات ولا بذور ولا أسمدة للزراعة، وعرقلت عدم كفاية منشآتهم الإنتاجية من تربية الحيوانات، وأضطر الإجراء الزراعيون إلى تأجير أرضهم أو استخدامها جزئياً، واستئجار المعدات وماشية العمل مؤجرة من أغنياء الفلاحين (الكولاك).

وثانيا، وفى سياق ما ذكرت، بدأت السلطة الاشتراكية تأسيس شركات التسليف الزراعى، وإمداد الفلاحين بالتجهيزات والآلات بشروط ميسرة، وقامت التعاونيات الزراعية بوظائف التسويق والإمداد والإقراض، وظهرت التعاونيات الإنتاجية. ولم يحل اضعاف مواقع (الكولاك) دون توسيع مزارعهم فى فترة (النيب)، ومارسوا المضاربة فى المواد الغذائية والتجارة فى المواد الخام والربا واستئجار الأرض واستخدام العمل المأجور وشراء المحصول فى الأرض، وأحبطوا قرارات السلطة السوفيتية بالتجميع الزراعى، وحاولوا الاستيلاء على الغابات. وفى انحياز طبقى للفلاحين الفقراء ساندتهم الدولة السوفيتية؛ فوزعت التجهيزات الزراعية عليهم فى المحل الأول بجانب المساعدة المالية، وتم تحصيل القسم الأعظم من الضريبة الزراعية الموحدة من (الكولاك)، الذين دفعوا نحو 15 مرة أكثر من الفلاحين الفقراء، بينما دفع الفلاحون المتوسطون 4 مرات فقط أكثر من الفلاحين الفقراء.

ورغم عواقب الحرب العالمية ثم الحرب الأهلية وحروب التدخل، انخفض الوزن النسبى للفلاحين الفقراء من 65% قبل الثورة الاشتراكية إلى نحو 22% فى عام 1925/ 1926، وكان هذا إنجازاً حقيقياً. ومقارنة بفترة ما قبل الثورة وحتى عام 1924/ 1925، ارتفع الوزن النسبى للفلاحين المتوسطين من 20% من مجموع الفلاحين إلى 64.7%، وانخفض الوزن النسبى لأغنياء الفلاحين (الكولاك) من 15% قبل الثورة إلى نحو 7% .

وثالثا، أن السياسة الاقتصادية الجديدة أعطت للمؤسسات القائمة على الحساب الاقتصادى (الربحية) حق تحقيق منتجاتها فى السوق والقيام بنفسها بتخزين وتوفير احتياجاتها من المواد الخام والوقود. وفى عام 1921 بدأت إعادة بناء الصناعة وخاصة الصناعة الخفيفة واخضعت للحساب الاقتصادى (الربحية) وباعت منتجاتها فى السوق. ثم بدأ تنظيم المصانع فى شركات قابضة على أساس إقليمى، وتمت تصفية ما لم يملك منها القدرة على الحياة، وارتبطت أجور العمال بالإنتاجية وليس بالحاجة. وأدى إحياء الصناعة الصغيرة والحرفية إلى إحياء جزئى للرأسمالية، وألغى تأميم المؤسسات الصغيرة، وصار لكل مواطن سوفيتى الحق فى تنظيم مؤسسة صناعية صغيرة لا يزيد عدد عمالها على 10- 20 عاملاً، وأن يحوز الناتج ويجلب الخامات والتجهيزات، وأن يؤجر المصانع الحكومية.

وقد كانت صناعة الآلات الثقيلة فى روسيا ما قبل الثورة ضعيفة التطور، ومعتمدة على استيراد الآلات والمعدات. وفى الفترة 1924/ 1925 كانت السوق الخارجية غير متاحة للسلطة السوفيتية، ولم تكن المصادر من النقد الأجنبى كافية لتمويل الواردات، وتطلب تحول الصناعات الحربية الى مدنية رءوس أموال ضخمة. ورغم هذا، وفى فترة «النيب»، كانت عملية إحياء الصناعة فى أوروبا الغربية أبطأ منها فى روسيا بما لا يقاس، حيث استغرقت نحو 10 سنوات فى فرنسا وألمانيا مقابل 5 الى 6 سنوات فى روسيا رغم تدمير صناعتها بدرجة أعلى.

وفى ظل بدايات تخطيط تطور الاقتصاد، لعب الإصلاح النقدى دوراً رائداً فى إحياء الاقتصاد الوطنى وبناء الاشتراكية، وسهل استقرار العملة تطور الإقراض، وبجانب بنك الدولة تأسست بنوك، وظهرت مصادر جديدة لتمويل موازنة الدولة، وأخذ يقل إصدار البنكنوت لتغطية عجز الميزانية، وخُفِضَت النفقات الحكومة. وفى عام 1923/1924 صار ممكناً تحقيق التوازن بين ايرادات ونفقات موازنة الدولة، وزاد الإنفاق الاقتصادى والاجتماعى والثقافى. وبدءا من عام 1926، بدأت عملية التصنيع الاشتراكى بانجازاته فى ظل الاقتصاد الاشتراكى المخطط، حتى كانت الإخفاقات التى مثلت العامل الأهم وراء هزيمة الاتحاد السوفييتى فى الحرب الباردة، وخسارة الاشتراكية فى المنافسة الاقتصادية مع الرأسمالية. وهو ما وعدت بتناوله لاحقا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف