يعرف بعض الادباء "الإلهام" بأنه القدرة علي أن يخلق المرء في نفسه أنسب الحالات للعمل.
يقول أوستروفسكي: انني مقتنع بشيء واحد هو ان الإلهام يأتي أثناء العمل والكاتب يجب أن يكون كالبناء في هذا البلد. أي أن يعمل في جميع الأجواء سواء كانت سيئة أم حسنة.
أنا أتفق مع هذا الرأي تماما فالقضية ليست في "أنسب الحالات للعمل" ولكن في مدي قدرتنا علي ايجاد تلك الحالة في النفس كذلك فإنني أتفق مع الرأي بأنه ينبغي علي الكاتب ألا ينتظر حتي يأتيه الإلهام ــ وقد لا يأتيه! ــ وإنما عليه أن يذهب فيحصل عليه.
من الخطأ ــ علي حد تعبير جون برين ــ ان ننتظر الوحي قبل الكتابة. لا فلأن الوحي لا وجود له. بل إنه لا يأتي إلا مع الكتابة. يكفي أن تكون لديك الصورة. ليس من الحتم ان تكون عالما بأصل الصورة. المهم ان تكون لديك الصورة. وهي لن تكون موجودة ومتبلورة إلي حد ما ما لم تكن قد اتخذت قرارا بكتابة القصة ــ أو الرواية ــ وهممت بكتابتها.
ولعلي أشير إلي قول همنجواي: "في روايتي العجوز والبحر كنت علي علم بأمرين أو ثلاثة من الموقف كله. لكن لم أعرف القصة. كما لم أكن أعرف علي وجه الدقة ما سيقع من أحداث في لمن تدق الأجراس. أو وداعا للسلاح".
والحق أني حين أبدأ في كتابة عمل ما. فإن صورته في ذهني لا تكون واضحة تماما اني أكتفي بالفكرة دون تفصيلات. وإن توضحت بعض التفصيلات الصغيرة لكنني أفضل ان يكتب العمل نفسه. بمعني أني ارفض التحديد الصارم لصورة العمل منذ بداية الكتابة. حتي لحظة ترك القلم. ذلك تعسف لا أتصور أني أقدم عليه.
كما قلت. فإني أبدأ الكتابة وصورة العمل غير واضحة الملامح. فتتوضح معالمها أثناء الكتابة. لأنها هي التي تهب تلك الملامح باسهام من المخزون الذي أمتلكه من الخبرات والتجارب والرؤي والتصورات.
عندما أبدأ الكتابة. فإني أعتمد كثيرا علي الخبرات ــ خبراتي وخبرات الآخرين ــ الكامنة والمترسبة في أعماقي. لا أجهد نفسي في البحث ولا أحاول انتزاعها. إنما اترك للعملية الإبداعية سبيل استدعائها علي الورق. تظهر في الوقت الذي تريده. وعلي النحو الذي تريده. دون تعمد ولا قسر من ناحيتي. وربما تكون الشخصية. أو الحادثة. غائبة تماما. فلا أتذكرها إلا أثناء عملية الكتابة.
إذا كانت الشخصية الروائية تنتمي إلي مبدعها من حيث وضع البذرة في الأرض. النطفة في الرحم. فإنها تكتسب ملامحها من عملية التخلق. ميشيل بوتور يذهب إلي أن الروائي يبني أشخاصه. شاء أم أبي. علم ذلك أو جهله. انطلاقا من عناصر مأخوذة من حياته الخاصة. وان أبطاله ما هم إلا أقنعة يروي من ورائها قصة. ويحلم من خلالها بنفسه. فإن القصة تكتب نفسها. تستمد مقوماتها. حياتها. خصوصياتها. من داخلي. من ثقافتي وتأملاتي وخبراتي وخبرات الآخرين. من التفصيلات والمنمنمات التي تشكل ــ في مجموعها ــ نظرة الفنان الشاملة. فلسفة حياته. لم يبدأ بيكاسو من اللحظة. ولا من المطلق. لكنه استوعب تاريخ الفن التشكيلي جيدا. قبل أن تجري ريشتة بالخط الأول درس مبادئ التصوير وتعرف إلي التقاليد الفنية منذ ما قبل عصر النهضة وإلي الفن الاغريقي والروماني المسيحي وتعرف أيضا إلي تقنيات متحف السلالات البشرية. وعلي أعمال السكان الأصليين لقارة استراليا وعلي أعمال الهنود الحمر والفن الفرعوني والهيليني والقبطي والإسلامي إلخ.
وأحيانا فإني أتقمص الشخصية بالتوغل في العمل الإبداعي. تصبح هي أنا أو أصبح أنا هي.
ولعلي أتوقف أمام الشخصية المسماة ــ بلغة السينمائيين ــ "الكاراكتر" الشخصية غير المألوفة والصامتة أحيانا سواء علي المستوي الجسدي أو النفسي الشخصيات العادية لا تلفت انتباهي لا أتوقف أمامها أعبرها بالعين وبالتأمل في آن.
أتذكر القول ان الكتابة هي السبيل الوحيد لمعرفة الحقيقة والوقت الوحيد الذي أعرف فيه أن شيئا ما حقيقي. هي اللحظة التي يعلن فيها عن وجوده أثناء فعل الكتابة. أنا أكتب لأكتشف ما أفكر فيه. وما أنظر إليه. وما أشاهده. وما يعنيه ذلك كله. ما أتطلع إليه وما أخافه. وما الذي يدور في توالي الصور داخل ذهني.
وطبيعي أن الحرص علي أن تكتب القصة نفسها قد أثمر بعض النتائج السلبية وأخطرها الوقوع في "مطب" السهر فأنا أسمي الشخصية ثم أختار ــ لسبب أو لغير سبب ــ اسما آخر. ويختلط الأسمان في لحظات الكتابة. فلا أنتبه إلي التداخل المعيب إلا في لحظات القراءة.