المصريون
جمال سلطان
لماذا فشل السيسي في الهرب من حصار حقوق الإنسان ؟!
سامنثا باور ، الديبلوماسية الأمريكية المحنكة ، ومندوبة الولايات المتحدة السابقة في الأمم المتحدة ومجلس الأمن ، والتي طالما أحرجت مندوب روسيا بشجاعة ، خاصة في دفاعه عن الطاغية بشار الأسد ونظامه وجرائمه ، أبدت غضبا شديدا على تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي في باريس والتي قال فيها أنه لا يوجد معتقل سياسي واحد في مصر ، ووصفت كلامه بوصف قاس جدا "كذبة مفضوحة" ، أو صلعاء ، مضيفة : هناك أكثر من خمسين ألف سجين سياسي في مصر الآن كلهم تم اعتقالهم بعد 30 يونيه .
هذا التعليق العنيف من الديبلوماسية الأمريكية الشهيرة يأتي في سياق موجة غضب غربية من تصريحات السيسي ، ونفيه الغريب لوجود مسجون سياسي واحد في مصر ، واعتباره أن كل هؤلاء الذين تم اعتقالهم أو توقيفهم خلال السنوات الأربع الماضية هم مجرمون عاديون ، فقد علقت منظمات حقوقية دولية على ذلك بشدة وأبدت استغرابها لمثل هذا الكلام ، مثلما فعلت هيومن رايتس ووتش ، هذا فضلا عن الانتقادات الداخلية المتكررة ، هذا بالإضافة إلى الأسئلة المتكررة من الإعلام العالمي والتي تحرج السيسي في كل مرة يسافر فيها خارج البلاد .
لا توجد سفرة للسيسي في أي بلد أوربي إلا ويكون هذا السؤال هو أول وأهم وأخطر سؤال يواجهه : انهيار أوضاع حقوق الإنسان في مصر واتساع نطاق الاعتقالات لآلاف النشطاء والسياسيين ، وفي كل مرة يقول الرئيس نفس الكلام ، هؤلاء مجرمون وليسوا سياسيين ، ولا يوجد عندي معتقل ولا مسجون سياسي ، ثم يعود في السفرة التالية ليواجه نفس السؤال ويكرر نفس الإجابة ، والأمر على هذه الشاكلة يعني بوضوح أن العالم يسخر من الإجابة أو يضعها خلف ظهره ويبحث عن إجابة منطقية أو حتى عن وعد بإصلاح الأوضاع ، بل وصلت الأمور في الرحلة الأخيرة إلى باريس أن بعض الصحفيين الفرنسيين عندما كانوا يوجهون له السؤال على الهواء كانوا ينادونه : سيادة المشير .. ، برتبته العسكرية ، في إيحاء بأنه "حاكم عسكري" ، وهو كلام جارح قطعا ، ولكنه يكشف عن ضيق بالغ من قبل الإعلاميين تجاه هذه الأجوبة غير المنطقية وغير المفهومة والتي تحتقر عقولهم وتستخف بمهنتهم .
باختصار ، العالم كله يرى أن مصر تعاني إهدارا لحقوق الإنسان واعتداء واسع النطاق على الحريات العامة واعتقالات بالجملة لآلاف السياسيين ، بعضهم ينتظر محاكمات من عامين وأكثر من عامين ، وفي الخارج لا يهتمون "بالختم" الذي تضعه على قوائم هؤلاء المعتقلين أو نوع التسمية التي تختارها لتلك القوائم ، المهم هو المعنى والمضمون ، وإذا كان العالم الخارجي يرى ذلك بوضوح ، فالبديهي أن أي مشتغل بالشأن العام في مصر يراه بوضوح أكثر ، وينبغي على الرئيس أن يبحث عن إجابات أخرى أكثر إقناعا ، أو يطرح رؤية للخروج من هذا المأزق ، أو يبادر بجهد وطني حقيقي لتفكيك هذه الأزمة المسيئة للنظام ولمصر وله شخصيا في الداخل والخارج ، وأظنه قد أدرك الآن أن لا أحد في الخارج أو الداخل مقتنع بإجابته المتكررة .
في الرحلة الأخيرة ، غضب السيسي من تكرار السؤال عن حقوق الإنسان ، وقال أننا في مصر ليس لدينا فرص وظائف ولا تعليم جيد ولا نظام صحي جيد ولا إسكان جيد ، فلماذا لا تسألوني عن كل ذلك ، والحقيقة أن من يسأله عن السكن والعمل هم المصريون وليس المواطن الفرنسي ، والحقيقة أيضا أن من يسأله عن ذلك في مصر يتهم بأنه غير وطني وأنه متآمر على الرئيس ، ومشكك في إنجازاته ، لكن ها هو الرئيس نفسه يعترف بذلك ، رغم أنها دعاية سلبية له كمرشح رئاسي في الانتخابات المقبلة ، لأنها اعتراف ضمني بأنه لم يوفق في إنقاذ الوطن في كل هذه المجالات ، لكن المسألة الأهم هنا هو افتراض الرئيس أن ثمة تعارضا بين حقوق الإنسان السياسية وحقوقه الاجتماعية ، فإذا كنت غير قادر على أن توفر لي سكنا فهل هذا مبرر لكي تهدر كرامتي أو تسجني لأني قلت لك أنك فشلت في توفير السكن ، إذا كنت غير قادر على توفير فرص عمل للناس فهل هذا مسوغ لكي تحرض علي أجهزتك ومؤسساتك لترويعي بتهمة إهانة الرئيس أو إثارة الرأي العام ، ثم تقوم بسجني بعد ذلك وتقول للعالم أنه مجرم وليس سجين رأي ولا سجينا سياسيا ؟ .
السلطة التي تدفن رأسها في الرمال متصورة أن العالم لا يراها ولا يشاهد أخطاءها وانحرافاتها لا تهرب من أزمتها في الواقع ، ولكنها تفاقم من تلك الأزمة ، وترسخها ، وتعقدها ، وتفسد أي جهد لها في أي مجال تنموي أيا كان ، لأن "الإنسان" هو محور أي تنمية أو نهضة ، وعندما يفقد "الإنسان" إحساسه بضمانات الكرامة والعدالة والحرية والشفافية والمشاركة في وطنه ، يصبح "شيئا" لا ينتج ولا يبدع ولا يتحمس لشيء ، ويدرك أن أي جهد له سيكون إلى الهدر .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف