خيرية البشلاوى
رنات - محمد عبدالفتاح .. وداعاً
انسحب الرجل في هدوء وكعادته مضي وحده من دون وداع لأن ميعاد الرحيل المفاجئ لم يترك لنا أو له الفرصة وهو الذي كان حريصاً علي ابداء مشاعر المودة وتأكيد قيم الوصال والتواصل والاحترام الواجب لمعني الزمالة وتقدير الزملاء متحررا من الغيرة والشللية متسامياً عن رزيلة الضرب تحت الحزام والخوض في سيرة الآخرين بهدف تشويه صورهم وكان مهذباً إلي أقصي حد. خلوقا وصموتا في نبل. عفيفاً يعرف قدر الآخرين ولا يتردد في إبداء إعجابه بهم ولا يبخل بمعلومة قد تفيدهم!
انه أحد رفقاء الدرب الذين تبتهج بلقائهم في أي مناسبة تجمعك بهم. هؤلاء الذين اجتهدوا وثابروا وأضافوا ودون ادعاء إلي المكتبة السينمائية عددا من المطبوعات المهمة التي تتناول مسيرة حياة ومشوار الكثير من الرموز الفنية البارزة في حقل الإخراج والتمثيل والنقد السينمائي ومنها كتبه عن المخرج التسجيلي فؤاد التهامي والاخوين حسين فوزي وعباس كامل والمخرج نيازي مصطفي وأنور وجدي وإسماعيل ياسين وحسن الإمام إلي جانب انه عمل مديرا لتحرير سلسلة "آفاق السينما" التي تولت إصدار عدد كبير من الأعمال المهمة.
وكان ـ يرحمه الله ـ كباحث يدقق في المعلومات التي يسوقها للقارئ ولا يكتفي بمصدر واحد متحررا من رزائل الاستخفاف ويسعي للحصول علي كل ما هو متاح من المعرفة باذلاً الجهد في الوصول إليها مهما كلفه ذلك من الوقت والجهد. فقد كان يدرك قيمة الصدق الموضوعي والأمانة العلمية بعيداً عن الفبركة أو السطو علي جهود من سبقوه محققاً مادته كلما أمكن من المصادر المباشرة.
أتذكر انه زارني عدة مرات عندما تم تكليفه بكتاب عني يصدر بمناسبة تكريمي في المهرجان القومي وكنت أشفق عليه كثيراًمن صعود السلالم المرتفعة وعرضت عليه أن أذهب أنا للقائه ولكنه كان يصر علي ألا أبذل أدني جهد. فقد كان يرحمه الله حساسا جدا وبقدر حرصه وأمانته وإخلاصه الشديد لأي مهمة يكلف بها حريصا بنفس القدر علي أن يكون خفيفا وكريما يجود بما يستطيعه.
في مهرجان الاسكندرية الأخير "7 - 12 أكتوبر 2017" تم تكليفه بالإشراف علي "الندوات" وكانت مناسبة طيبة جداً جعلتني ألتقي به كثيراً ونتحادث بعد أو قبل كل ندوة يحثني علي جمع مقالاتي وقد سبق وعرض علي أن يتولي هو هذه المهمة ولكنني من الذين لا يعودون أبداً إلي ما سبق أن سطروه أو نشروه.
وبرغم مظاهر العنف والهزال التي تعكس دقة ظروفه الصحية لم يتوقف عن النشاط بل انه كان يسارع بتقديم خدماته إذا ما جمعتنا مائدة واحدة أثناء تناول الوجبات في الفندق الذي استضاف المهرجان فقد كان يقدس الواجب ويلتزم بما يعتقد انه "الواجب".
في آخر مرة قبل نهاية المهرجان رجاني أن أداوم السؤال عنه فأكدت له حرصي الشديد علي معرفة أخباره والاطمئنان عليه من خلال الصديقة الرائعة المشتركة والباحثة الأمينة جداً - مني البنداري - ولكنه بنفس الهدوء والوداعة والصوت الهامس قال "مش كفاية".
وبالفعل قبل ساعات من رحيله اتصلت به وشكا من الوهن وشعوره بالضعف ومع ذلك سافر إلي العريش والحمد لله انه سافر فبقدر ما أزعجني نبأ رحيله المفاجئ أخافتني جداً فكرة أن يكون واجه الموت وحيداً بلا ونيس يبدد رهبة النهاية المحتومة.
فقد كانت "الوحدة" أقرب رفقائه بعد أن توفيت زوجته ولم يرزقه الله أبناء ولكن "الكريم لا يُضام" ومشاعر الابوة التي تصورت انه حرم منها مارسها بنفس الإخلاص والاستعداد للعطاء علي أولاد الجيران ومنهم من اعتبروه "أباً" لهم وهؤلاء كبروا إلي جواره وأصبحوا ضمن أفراد أسرته.
مات محمد عبدالفتاح أثناء رحلة عمل في العريش ولم يكن وحيداً الحمد لله ولكل أجل كتاب وليس باليد حيلة.
رحل هذا الباحث الأمين ضمن آخر الرجال المحترمين الحافظين للقيم "القديمة" التي تتواري الآن وتغيب عن الحياة "الحديثة" ومع تغلغل جميع صور الفساد في عالمنا بقي مؤمناً بأنه "لن يصح إلا الصحيح" فظل يحترم قيم العمل والاجتهاد والولاء للأخلاق الأصيلة والقيم التي هجرها الناس وبعد أن طغت مظاهر الزيف وسيطرت مظاهر التطلع إلي الشهرة والمتعة والمكاسب السريعة والسهلة علي النفوس بقي كما هو بنفس القناعة والهدوء.
رحم الله محمد عبدالفتاح وأسكنه فسيح جناته.