محمد السعدنى
في الفكر والسياسة - أفقٌ في وجه العاصفة
وليكن...
لابد لي أن أرفض الموت
وأن أحرق دمع الأغنيات الراعفة
وأعري شجر الزيتون من كل الغصون الزائفة
فإذا كنت أغني للفرح
خلف أجفان العيون الخائفة
فلأن العاصفة
وعدتني بنبيذ.. وبأنخاب جديدة
وبأقواس قزح
ولأن العاصفة
كنست صوت العصافير البليدة
والغصون المستعارة
عن جذوع الأشجار الواقفة
محمود درويش -
من قصيدة وعود من العاصفة.
تأمل القصيدة واختزن في مخيلتك ماذا عساه يقول محمود درويش. كانت القصيدة ملكه صارت الآن لك، هكذا هو الشعر والفكر والأدب. وقديماً قالوا: المعني في باطن الشاعر، أي هو وحده الذي يعرفه، لكنني لما تسألني أقول لك كان زمان. المعني لك وأنت من تحدد وجهة العاصفة، ضدك أم معك. القصيدة عاصفة هبت علي فكرك ووعيك وراحت تتفاعل داخلك، فلربما أنتجت بالمبني الذي هي عليه معني له دلالة عندك، فأصبح المعني في باطنك أنت، ولعل هذا ماقصد به المفكرون عملية العصف الذهني، إذ تهب الأفكار كما عاصفة تحرك فكرك، ربما باتجاه العاصفة وربما علي العكس منه، لكن المؤكد هو أنك بعد القصيدة، أنت لست كما كنت قبلها، هكذا أيضاً مع الرواية والقصة واللوحة التشكيلية والفيلم والمقال والمسرحية. وهذه هي قدرة العمل الفني علي الإلهام والتأثير والإيحاء والشحن.
وشاعرنا الكبير محمود درويش هنا يقف - كما أنت أحياناً - أمام العاصفة، فماذا فعلت به؟ هي لم تقتلعه من جذوره كما أي عاصفة، ذلك أنه فارس صلب ناضل بالكلمة والفكرة، فنظر للعاصفة باعتبارها وعدا لا غدرا، وراح يغني، رغم أي شئ وكل شئ، يرفض الموت، ويحرق دمع أغنياته الحزينة النازفة، ويعري شجرة الزيتون من كل الغصون التالفة، هنا تبدي إيجاب العاصفة ووعودها، بأنخاب جديدة، والنخب رمز احتفال بانتصار أو نجاح أو تحقيق أمنيات، وقوس القزح هنا رؤية جديدة تلون الحياة بالجمال، فالعاصفة كنست في طريقها الغصون البالية، واخذت معها أصوات العصافير البليدة، وهيأت الجو لأغنيات الفرح.
هذا مافعله درويش بأن أعطي أفقاً جديداً لحاله ورؤاه وذاته وهواه، فتعلم منه كيف تطوع العاصفة، إذ هي فكرته العبقرية بأن وضع نفسه في الموقع والموضع اللذين لايسمحان لها أن تجرفه ليعاقر الموت والضياع، ذلك أنه يعرف قدر نفسه وكيف يختار موقعه وأين يضع ذاته، وزاوية إطلاله علي الحياة والكون والطبيعة والموت والأغنيات الحزينة والفرح.
هل فيما فعله درويش ما يصعب عليك إتيانه وتكراره؟ وهل يمكنك - أنت أو أنا أو من هو غيرنا - أن يفعله؟ هذا هو السؤال، وهو موقوف بما تعرفه عن نفسك وقيمتها فتتخير أين تضعها وأين تظهرها وكيف تبعدها عن الأزمة، وكم في حياتنا من أزمات وعواصف.
وهنا تلقف السؤال الكاتب التايلاندي الشاب »شين بوراناهيران» وراح يروي حكايته الموحية: »كان الفتي بادي الغضب والحيرة والتوتر وعدم الرضا، لاحظ ذلك والده الحكيم، اقترب منه وسأله عن حاله، فباغته الصبي: يا أبي ألا تري مانبيت فيه نصحو فيه، ومع كل ماأبذله من جهد لاشئ في حياتي يتقدم، ولا أحداً من الناس يعيرني اهتماماً، فما قيمة حياتي هذه؟ ابتسم الحكيم وناوله حجراً طلب إليه أن يذهب فيبيعه في السوق، واشترط عليه: إذا سألك أحد عن السعر فارفع إصبعيك دون أن تقول شيئاً، ثم عد وأبلغني بالسعر. ذهب الصبي للسوق وسألته سيدة: كم سعر ذلك الحجر؟ أود وضعه في حديقتي، لم يتفوه الصبي بكلمة ورفع إصبعيه، فقالت السيدة: دولارين؟ سأشتريه. أخبر الفتي والده فطلب منه أن يذهب بالحجر إلي متحف قريب، وطلب منه أن يلتزم بما أوصاه، سأله أمين المتحف عن سعر الحجر، فرفع أمامه إصبعين، فقال الرجل: مائتا دولار؟ سأشتريه. عاد لوالده وأخبره فطلب منه أن يذهب إلي متجر أحجار كريمة وأوصاه: أره للمالك ولا تقل شيئا وإن سأل عن السعر فارفع إصبعين فحسب، وفي المتجر سأله الرجل:أين وجدت هذا الحجر؟ هو من أكثر الأحجار ندرة في العالم فبكم تبيعه؟ رفع الفتي إصبعيه فقال الرجل: سأشتريه مقابل مئتي ألف دولار. إندهش الفتي وركض إلي والده يخبره بالسعر الجديد، وهنا عاجله والده: كنت تسأل عن قيمة حياتك، الآن يابني تعلمت الدرس وعرفت الحكمة وراءه، إذ لايهم من أين أتيت ولا كيف كانت حياتك، مايهم هو أين تقرر وضع نفسك،في السوق أو المتحف أو مع الأحجار الكريمة. ولعلك عشت حياتك بأكملها ظنا بأنك حجر بقيمة دولارين فرآك الناس كذلك،بينما كل شخص يحمل ماسة بداخله وعلينا إختيار أن نحيط أنفسنا بمن يري قيمتنا والماسة التي بداخلنا.الآن عليك أن تغني للفرح وتصنع لنفسك أفقاً في وجه العاصفة.