نبيل زكى
كلمة السر - العميد.. والعدل الاجتماعي
٤٤ عاما مضت علي رحيل الطود الشامخ والعملاق المفكر والأديب والمؤرخ والناقد والشاعر ورمز الفكر المستنير والعقل الواعي الدكتور طه حسين. رجل يثري العقل وينعش الوجدان ويشحذ الأحاسيس ويطرب القلب. يشعر المرء وهو يقرأ له أو يستمع إليه بأنه يزداد ذكاء واستنارة وقدرة علي الفهم والاستنتاج وتحليل الظواهر والأحداث والشخصيات واقتحام مناطق مجهولة. وقد أعلن العميد الحرب علي الجهل والتخلف والتعصب والقبح والتهافت والتفاهة والاستبداد والفوارق الطبقية.. مدافعاً عن الحق في التعليم وعن العدل الاجتماعي.
وقد اضطر طه حسين لنشر كتابه »المعذبون في الأرض» في لبنان عام ١٩٤٩ بعد أن سحبت الحكومة نسخه من المطبعة المصرية. وفي مقدمة الطبعة الثانية لنفس هذا الكتاب، كتب العميد: »صدر الأمر بأن يُحال بين هذا الكتاب وبين الناس وبأن تؤخذ نسخه من المطبعة حيث يصنع بها السلطان ما يشاء، يحرقها أو يمزقها أو يغرقها، وصودر فيما صودر من كتب أخري كانت تريد أن تبصر المصريين بحقائق أمورهم وتعظ منهم الطغاة والبغاة وتعزي فيهم البائسين واليائسين». وقد أهدي العميد كتابه »إلي الذين يحرقهم الشوق إلي العدل والذين يؤرقهم الخوف من العدل، وإلي الذين يجدون ما ينفقون والذين لا يجدون ما ينفقون».
ويري العميد أن »الأديب مهما يكن أمره، كائن اجتماعي لا يستطيع أن ينفرد ولا أن يستقل بحياته الأدبية.. ولا يستقيم له أمر إلا إذا اشتدت الصلة بينه وبين الناس، فكان صدي لحياتهم وكانوا صدي لإنتاجه وكان مرآة لما يذيع فيهم من رأي وخاطر..».
ويقرر العميد أنه لابد »أن نعيد النظر في نظامنا الاجتماعي كله، فيما تجبي الدولة من الضرائب وفيما تمنح الدولة من المرتبات». وكان يقصد مضاعفة الضرائب علي الأغنياء ومضاعفة المرتبات التي تمنح للموظفين، كما يؤكد »أحمد عبدالرازق أبوالعلا» مؤلف كتاب »طه حسين والبحث عن العدل الاجتماعي». ويضرب العميد مثلا بالموظف الذي يعول أربعة عشر شخصا ومرتبه اثنا عشر جنيها، فهو يستدين من جهة حتي لا يجد إلي الاستدانة سبيلا، وهو يلتمس الإحسان من كل طريق فلا يظفر بما يلتمس من الإحسان..
ويكتب العميد بعد ذلك بمزيد من الصراحة قائلا: »الله لم ينشر ضوء الشمس ليستمتع به فريق من الناس دون فريق، والله لم يرسل النسيم لتتنفسه طائفة من الناس دون طائفة، والله لم يجر الأنهار ولم يفجر الينابيع لتشرب منها جماعات من الناس وتظمأ إليها جماعات أخري. والله كذلك لم يخرج النبات من الأرض ليشبع منه قوم ويجوع آخرون».
الجميع علي قدم المساواة فيما يري العميد.. فقد »أسبغ الله نعمته ليستمتع بها الناس جميعا»، وبالتالي فإنه حرام علي الموسرين أن يطعموا وأن يشربوا وأن يكتسوا حتي يطعم الجائعون ويشرب الظامئون ويكتسي العارون من المعسرين، وعلي الدولة أن تقوم علي هذا كله بسلطان القانون». ومعني ذلك »إلغاء المسافات والآماد بين الأغنياء والفقراء..» حسب تعبير العميد، الذي يصل في دفاعه عن المسحوقين من الفئات الدنيا إلي أبعد مدي، كما جاء علي لسان الابن »نعيم» في قصة »ما وراء النهر» (٩٤٦) وهو يخاطب صديق والده: »حدثني عما تقدمون من الخير والبر إلي أهل القرية حين تسخرونهم، في غير رفق ولا لين وفي غير محبة ولا مودة وفي غير إنصاف ولا عدل، لمنافعكم وحين تستأثرون من دونهم بثمرة ما يبذلون من جهد ويحتملون من عناء. إن أرض القرية لخصبة تنبت الغني، ولكنها تنبت الغني لكم ولا تنبت لأهلها إلا فقراً وبؤساً وحرماناً».