الأهرام
جلال امين
خواطر حول هدف «السعادة»
فى زيارتى الأخيرة للولايات المتحدة، لاحظت أن بعض المحال تعلن ما تسميه «الساعة السعيدة»، وتقصد بذلك ساعة أو أكثر تبيع خلالها المأكولات بسعر مخفض أو مقترنة ببعض المزايا الأخري. وقد لاحظت أيضا أن الأمريكيين يكثرون من استخدام كلمة «السعادة» فى تمنياتهم للآخرين، فيتمنون لهم رحلة سعيدة أو إجازة سعيدة أو حفلة سعيدة.. الخ، وكأن هذا هو أفضل ما يمكن أن يتمنى الناس بعضهم لبعض.

قد يبدو هذا المسلك طبيعيا ولاغبار عليه، إذ ما الذى يمكن أن يحدث للإنسان أفضل من أن يحصل على السعادة؟

ولكن الحقيقة أن هذا المسلك حديث نسبيا، قد تعود بدايته إلى أواخر القرن الثامن عشر، أى بداية ما يمكن تسميته «العصر الحديث»، الذى اتسم بنمو النزعة الفردية، والحكم على السلوك الانسانى بمعيار مايحققه الفرد من نفع، واعتبار أن مصلحة المجتمع ليست إلا جمع المنافع التى يحققها الأفراد المكونون لهذا المجتمع، وهو ما عبر عنه مبدأ جيريمى بنثام الشهير «أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس».

هذا المعيار أو المبدأ ليس بدهيا كما قد يبدو لأول وهلة. فمعيار السعادة معيار مبهم يعتمد فى تحديده على مايظن كل فرد منا أنه يحقق رغباته. إنه إذن مبدأ فردى يحرر الفرد من أى قيد يتجاوز مصلحته الخاصة. وهذا هو بالضبط مايبدو أنه حدث فى أواخر القرن الثامن عشر. فقد اقترن هذا العصر بطفرة فى نمو الرأسمالية الصناعية (أو مايسمى الثورة الصناعية)، التى وجدت من الملائم لها أن تكف الدولة عن التدخل فى تصرفات المنتجين والمستثمرين والمستهلكين، بعكس ما كان سائدا فى القرون الثلاثة السابقة حين ساد ما عرف بمذهب «التجاريين» (Mercantilism)، الذى كان يدعو إلى العكس بالضبط، أى تدخل الدولة بتوجيه المنتج والمستثمر والمستهلك إلى مايحقق مصلحة الدولة ككل. كانت الرأسمالية الصناعية الناشئة تريد عكس هذا بالضبط، فلاعجب أن اقترن نموها بشيوع التسليم بمبدأ «بنثام» الذى عرف باسم «مبدأ المنفعة»، ولاعجب أيضا أن اقترن هذا وذاك بقيام الثورة الفرنسية التى دعت أيضا إلى حرية الفرد، وهى الثورة التى وصفها ماركس وأنجلز «بالثورة البورجوازية».

لايبدو إذن أن هناك عيبا فى تبنى «السعادة» كهدف سوى أنه يترك الفرد ليحدد معنى هذا الهدف على هواه. ولايبدو غريبا أيضا أن يكثر ترديد لفظ السعادة، فى التعبير عما يتمناه الفرد لنفسه وللآخرين، فى الولايات المتحدة بالذات، حيث يسود الاعتقاد، أكثر مما يسود فى غيرها، بالحرية الفردية. ولكن الأمر يصبح محل نظر حتى اعترفنا بأن الأمثلة التى يمكن تقديمها لتعارض مصالح الأفراد فيما بينهم، هى أكثر مما نظن، أى أن مايجلب النفع لشخص كثيرا ما يتعارض مع ما يجلب النفع للآخرين، وأن فكرة آدم سميث الشهيرة أن المرء فى سعيه لتحقيق مصلحه الفردية يحقق فى نفس الوقت مصلحة الآخرين، وكأنه مدفوع فى ذلك «بيد خفية»، ليس من الصعب دحضها، ولكن مازال كثيرون يعتقدون، مثلما كان يعتقد سميث بأن ترك الحرية للمنتجين والبائعين فى الترويج لبضاعتهم سعيا وراء أقصى ربح، لايتعارض مع مصلحة المستهلكين فى تحقيق أكبر إشباع ممكن مما يشترونه من سلع، ومن ثم يدعون إلى ترك الحرية للمنتج والبائع فى إنتاج وبيع ما يشاءان، مع ترك الحرية للمستهلك فى اختيار مايشتريه، ويتوقعون أن ينتهى الأمر بحصول الجميع على «أكبر إشباع ممكن». هذا الموقف يفترض وجود درجة من العقلانية وضبط النفس لدى المستهلك أكثر مما يوجد فى الحقيقة. إن فرص الخداع والتضليل أكثر مما قد يظن هؤلاء، ومن ثم فإن المستفيدين الحقيقيين من ترك الحرية للجميع هم أكثر قدرة على هذا الخداع والتضليل.

قرأت مرة قولا منسوبا للسيدة مرجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا فى تسعينيات القرن الماضي، وكانت من المتحمسين لكف يد الدولة عن التدخل فى تصرفات أصحاب الأموال، إذ قالت: «إنها لاتعترف بوجود مجتمع (society) فهناك فقط أفراد». وهو قول خطير جدا خاصة إذا صدر من رئيس حكومة، وهو فضلا عن ذلك ينطوى على مغالطة كبيرة. صحيح أن للفرد وجودا ملموسا بينما «المجتمع» فكرة مجازية من صنع الذهن، ولكن هكذا أيضا أفكار الحرية والمساواة، دون أن يدحض أحد فى أهمية أى منهما وضرورته.

يبدو لى أن تبنى هدف «تحقيق أكبر قدر من السعادة» ينطوى على خطر محقق، سواء كان هدفا للفرد أو للأمة، إذ من السهل أن يستخدم لتبرير سياسة عدم التدخل فى سلوك الآخرين، وهى سياسة من المشكوك فيها جدا أنها تحقق دائما المصلحة العامة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف