الأهرام
حسن ابو طالب
فلتسقط بيروقراطية التخلف
من الشائعات التى دار حولها جدل أخيرا بين مرتادى مواقع الدردشة إن صندوق النقد الدولى يطالب الحكومة بخفض الجهاز الإدارى للدولة بما لا يقل عن مليون أو حتى مليونى موظف لا يحتاجهم دولاب العمل ويمثلون بالفعل ضغطا هائلا على الأداء الحكومى بوجه عام، كما يشكلون استنزافا كبيرا للموازنة العامة، وفى المقابل قامت الحكومة بنفى الأمر جملة وتفصيلا. الاعتبارات الاجتماعية والسياسية لا تدفع أيا كان فى التفكير فى هذا الأمر، فالسؤال المطروح هو إلى أين يذهب هؤلاء إذا ما تم تسريحهم حتى ولو حصلوا على مكافآت سخية تعويضات، كما أن هناك تخوفات تتعلق باحتمال انخراط البعض أو أبنائهم فى التورط فى تنظيمات إرهابية أو إجرامية بشكل عام.

ما سبق صحيح، لاسيما وأن المجتمع المصرى ككل منذ الخمسينيات والستينيات فى القرن الماضى وتحت تأثير الأفكار الاشتراكية التى لم يبق منها شئ إلا الظلم البين لمالكى المساكن القديمة وتوظيف عمالة لا يحتاجها الجهاز الإدارى، اعتاد على أن تكون الحكومة مسئولة عن كل شئ فى حياته من تعليمه الذى لا يوفر له الحد الأدنى من العلم النافع، وتوظيفه فى وظيفة لا علاقة لها بما تعلم ولا يكفى دخلها احتياجاته الأساسية فيصب اللعنات على الدولة والحكومة والمجتمع، وعقابا لهم جميعا يُفسد نفسه ويُفسد من حوله. وبذلك فإننا أمام دائرة جهنمية دعائمها قيم بالية وسياسات عفى عليها الزمن ونتائج شديدة الوطأة على الحاضر والمستقبل. ومع ذلك فالتفكير فى الخروج من هذه الدائرة دونه عقبات وعقبات. وتلك معضلة لابد لها من حل.

ولا شك أن الثمن الذى تدفعه البلاد بالفعل من جراء تضخم الجهاز الإدارى وترهل أدائه وشيوع الفساد داخله إلا من رحم ربى، هو ثمن كبير. وإذا راجعنا تصريحات العديد من المسئولين وكبار رجال الأعمال المصريين والعرب والأجانب سنجد أن القاسم المشترك هو أن البيروقراطية المصرية كفيلة بعرقلة أى مشروع استثمارى ومنع أى محاولة لتجديد دماء البيروقراطية نفسها من خلال الاعتراض ومقاومة كل السياسات التى تستهدف تغيير الثقافة السائدة بين موظفى الدولة لتصبح ثقافة إدارية متطورة كالتى نقرأ عنها فى الكتب وتطبقها الدول الناهضة والمتقدمة. وأذكر أنه فى نهاية العام 2014 وفى أثناء إحدى الزيارات للصين التى كانت تشهد آنذاك توقيع عدد كبير من الاتفاقيات الاستثمارية مع مصر، التقيت أنا ومجموعة صغيرة جدا من كبار الصحفيين مسئولا كبيرا، وكان سؤالى يتعلق بمدى جاهزية الجهاز الإدارى للدولة المصرية على الوفاء بكل هذه الالتزامات الواردة فى الاتفاقيات مع الصين، وقد قال المسئول الكبير إنه يدرك بالفعل هذه الإشكالية، ولكنها مشكلة أزلية وأن القائمين على الحكم ليسوا مسئولين عنها ولكنهم يحاولون تغيير الوضع مع مراعاة حقوق العاملين وعدم الإضرار بهم، ثم استطرد قائلا إن الأمل معقود على صدور قانون الخدمة المدنية الجديد، الذى كان آنذاك محل شد وجذب بين الحكومة ممثلة فى الوزير آنذاك أشرف العربى، وجموع من الموظفين الذين نزلوا الشارع لإرهاب الدولة فى أن تقدم على وضع قانون جديد للخدمة المدنية يعالج الكوارث الكبرى التى يعج بها الجهاز الإدارى، ويُقيد مكامن الفساد الشائعة والمعروفة بكل تفاصيلها. وكان أن دافع بعض نواب البرلمان عن مطالب الموظفين لدواع انتخابية فردية، ومن ثم تغيرت مبادئ كثيرة فى مشروع القانون، وتم تدجينه ليبقى الأمر فى معظمه على ما هو عليه.

استمرار الوضع البيروقراطى الراهن لن يساعد كثيرا على إحداث نقلة هيكلية تحتاجها مصر بكل قوة. ربما المثل القريب الذى تابعه الرأى العام حول المدارس اليابانية يكشف حجم المأساة وضرورة المواجهة الحاسمة. إذ أقدم وزير التعليم على إلغاء منظومة المدارس اليابانية وتأجيلها إلى أجل غير مسمى لحين وضع ضوابط ومعايير جديدة. أى اعتراف بوجود خطأ جسيم ولكنه مقصود، ولم نسمع عن محاسبة هؤلاء الذين وضعوا المعايير الملغاة وصاغوها على مقاس مصالحهم الشخصية المتواضعة دون أى اعتبار للمصلحة العامة، وكانت سببا فى اعتراض الحكومة اليابانية بصفتها الجهة المانحة والحريصة على سمعة نظامها التعليمى. إنهم نموذج متكرر فى كل الجهات الحكومية، وللأسف مثل هؤلاء هم من يقودون ويصدرون القرارات والتعليمات ويحصلون على العوائد بأشكالها المختلفة، والوطن يدفع الثمن.

هذه العقلية العقيمة نفسها هى التى صاغت معايير توزيع أجهزة التابلت التعليمية التى وزعت قبل عدة سنوات على طلاب عدد من المدارس الثانوية، واستهدفت بالأساس أن يظل الجهاز جديدا بلا استخدام وأن يعيده الطالب بعد ثلاث سنوات باعتباره عهدة غير قابلة لأى خدش أو حتى لمسة عابرة. تلك المعايير الآتية من العصور الوسطى استندت إليها إحدى المدارس فى محافظة دمياط وهكذا رفعت قضية على 15 طالبا بجرم استخدام الجهاز وحدوث بعض خدوش فيه، ومن ثم اتُهم الطلاب بتبديد عهدة رسمية وكأنهم موظفون، وكان من المحكمة أن أصدرت حكما بحبس الطلاب شهرين وغرامة 200 جنيه لكل منهم.

لن أناقش الحكم القضائى لأن هناك جولات أخرى فى الاستئناف. ولكن يظل هناك الحق فى مناقشة وزارة التربية والتعليم والقائمين عليها لاسيما فى مديرية دمياط، كيف يسمحون لأنفسهم بمثل هذه المعاملة لطلاب باتوا فى الجامعة لأنهم تفوقوا ودرسوا ووظفوا الأجهزة الحديثة وأن تعاقبهم برفع قضية وهمية، ومن ثم يجد الطلاب أنفسهم معرضين للحبس والغرامة. أى عقلية بيروقراطية هذه التى تجعل مصر يُقال عنها إنها البلد الوحيد فى العالم التى تسجن أبناءها الطلاب لأنهم تفوقوا واستخدموا وسائط حديثة فى التعلم. أتصور أن حق هؤلاء الطلاب هو التكريم والإشادة وليس السجن والغرامة، وأن على وزير التربية والتعليم إذا كان يريد أن تكون وزارته على قدر المسمى الذى تحمله أن يأمر فورا بالتصالح فورا مع هؤلاء الطلاب وأن تُلغى القضية وأن يٌقدم للطلاب التكريم المناسب. الأكثر من ذلك على السيد الوزير أن يقدم على تغيير معايير العهدة والمخازن السائدة بالنسبة للأجهزة التى تم توزيعها على الطلاب، وأن تُوفر لهم بأبسط الأثمان، والأكرم أن تكون بلا ثمن. مصر يا سادة بحاجة إلى فكر إدارى يتعلق بالمستقبل، وليس العصور الوسطى فهل من مجيب؟.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف