أسامة سرايا
النيل.. ومستقبل مصر المائى
ما طرحته، الأسبوع الماضي، حول الصراع على النهر لا يعنى أن يكون الأمر وردياً، وأن كل شيء محلول، ولكن لكى نأخذ درساً واقعيا من الأزمة الحادة التى طرأت بين دول الحوض بعد إعلان إثيوبيا بناء (سد النهضة) فى النصف الثانى من عام 2011، أى عقب التطورات الجسيمة التى مرت على مصر!
ولهذا أكتب حتى تحافظ مصر على تماسكها الداخلى لحماية أراضيها ومياها وسكانها الذين تجاوزوا 100 مليون نسمة، وأعتقد أن الدراسات والمباحثات التى قمنا بها فى السنوات الماضية يجب أن تسفر عن اتفاق جديد مع دول النيل الأزرق (مصر والسودان «شمالا وجنوبا» وإثيوبيا)، على أن يكون اتفاقا صريحا يحمى كل دول الحوض، ويجعل استفادتها من المياه واقعية، وأن تتحلى اتفاقياتها بالصراحة والوضوح والثقة فى النفس، بل والشجاعة. فقد طرحت مقترحا للتكامل الإقليمى بين دول المنطقة، فى صيغة مشابهة للسوق المشتركة، وأحد مجالات هذا التكامل هو إدارة الموارد المائية بطريقة تضاعف من استفادة مصر مياها ونفوذا.
فهناك 18مليار متر مكعب إضافية متوافرة يمكن زيادتها فوراً فى حالة اتفاق الدول (مصر وجنوب السودان والسودان وإثيوبيا) على عودة العمل فى أعالى النيل لزيادة إيراد النهر لمصلحة كل الأعضاء. وكان هذا المشروع قد توقف نتيجة الظروف السياسية، ونقص الموارد المالية، وغياب الإرادة، وإذا عاد مناخ الثقة والتعاون فى قناة «جونجلى 1و2» وبحر الغزال فسيحدث تحول كبير وسريع. على أن يراعى الاتفاق مصالح الجميع، ويبدأ من نقطة اعتراف شركائنا فى الحوض بحاجة مصر للمياه، فنحن بلد بلا أمطار طوال العام إلا من النيل، ونصنف ضمن بلاد الفقر المائي!
وأقترح أن نستعيد الاتفاقية التى أبرمت عام 2001، وعرفت باسم الأنترو بين مصر والسودان وأثيوبيا، وقد كان لها مكتب فنى فى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، بهدف التعاون فى المشروعات المائية المشتركة، وفق برنامج عمل لحوض النيل الشرقي، ومن بينها إقامة عدة مشروعات لإنشاء آلية مشتركة لمراقبة الفيضان والإنذار المبكر، مع استثمار تجارة الطاقة بين الدول الثلاث، والعمل على إدارة أحواض الأنهار لتوفير كميات المياه المفقودة فى المستنقعات. وأعتقد أن كل ذلك يمكن أن يتم فى حالة الاعتراف الإثيوبى باتفاقيتى 1929و1959ومشاركتها فى المشروعات النيلية المطروحة، خاصة إذا عرفنا أن موارد إثيوبيا المائية من المياه العذبة تزيد على 122 مليار متر مكعب سنويا، ولكن لا يبقى منها سوى 3%، وتتدفق الكمية الأكبر منها إلى نهر النيل بنحو 86% من إجمالى المياه فى النهر. وإذا نظرنا إلى كل دول الحوض فسنجد أن الكميات المهدرة تجعل من هذا الحوض أغنى الأحواض وفرة بالمياه، ومن المفترض أن هذه الكميات لا تسمح لدول الحوض الغنية بالمياه طوال العام بإفقار مصر مائيا، ولو استعرضنا الحالة المائية لكل دول الحوض فسوف نكتشف أن مصر هى أكثر الدول احتياجا للمياه، وعلى أشقائها فى الحوض أن يتعاونوا لكى تتجاوز مرحلة الفقر المائي.
ويعتبر النيل من أطول أنهار العالم، حيث يبلغ طوله 6695 كيلو مترا، وعلى الرغم من ذلك، فإنه أقل أنهار العالم مياها، حيث لا يتجاوز كمية المياه المصروفة إلى دول المصب 84 مليار متر مكعب سنوياً بسبب تزايد التسرب المائى فى الأحراش، والبخر العالى من مسطحات البحيرات فى منابع النهر.
إن رحلة النهر تبدأ من وسط وشرق إفريقيا حتى شمال شرقها، ويمتد عرضياً من منطقة البحيرات الأستوائية العظمى من شرق القارة فى كينيا وتنزانيا حتى تصل الرحلة إلى المصب فى البحر الأبيض، ويمر النهر فى إحدى عشرة دولة هى إثيوبيا وإريتريا وأوغندا وكينيا وبوروندى وتنزانيا والكونغو الديمقراطية ثم السودان وجنوب السودان ومصر. وبهذا يغطى الحوض 10% من مساحة إفريقيا، ويبلغ إيراد النهر نحو 1600 مليار متر مكعب سنوياً، مما يعنى أن متوسط نصيب الفرد يصل إلى 4878 مترا مكعبا، وكل دول الحوض تمتلك عدة بحيرات عذبة، وتكثر فيها الأمطار، بينما تعتمد مصر على 97% من حاجتها المائية من النيل. وحتى نغير هذه المعادلة، علينا أن نزيد من إيرادات النهر، وهذا يحتاج إلى عمل مائى متواصل، وتستطيع مؤسسة الرى المصرية تغيير المعادلة بخبراتها الكبيرة. إن ما طرحته لهو مشروع كبير، يجعل المياه تحتاج إلى عمل مستمر، على أن تعيد مصر هيكلة وزارة الري، وأن تكون هناك مجموعة من الخارجية والأمن والرى والزراعة تعمل طوال العام من أجل حماية النهر فى الداخل والخارج، وعلينا أن نعيد كل الاتفاقيات والمشروعات المبرمة فى منطقة حوض النيل بهدف الانتفاع بمياه النيل، والتحكم فى موارده من أجل تعميم الفائدة على كل دول الحوض، منذ اتفاقية روما 1891 مروراً باتفاقيتى أديس أبابا 1902، ولندن 1906 ، ثم روما 1925 حتى اتفاقيات 1929و 1932 و 1949 و1953، فهناك ذخيرة من الاتفاقيات التى تضمن التعاون لا الصراع على النيل حتى اتفاقية 1959 وعنتيبى 2010 . ونحن فى حاجة إلى استعادة مبادرة حوض النيل التى تأسست بهدف وضع إستراتيجية للتعاون والانتقال من مرحلة الدراسات إلى مرحلة التنفيذ للمشروعات، والتى كان شعارها تحسين معدلات التنمية الاقتصادية، ومحاربة الفقر. أما مشروع الحلم فهو ربط نهر الكونغو بنهر النيل، وهو مشروع كبير يحتاج إلى تضافر قوى عديدة، وله صعوبات جغرافية، فإن الطبوغرافية لحوض نهر الكونغو توجه المياه باتجاه الغرب بعيداً عن اتجاه النيل، وعند الرغبة فى إعادة توجيه جزء من هذه المياه لتلتف فى مسار جديد لتتوجه إلى الشمال الشرقي، حيث تتقابل مع مياه النيل بجنوب السودان، فإن هذا يحتاج إلى مسار جديد، يصل طوله إلى نحو 1000 كيلو متر فى مناطق استوائية من الغابات، وبها فروق فى المناسيب الطبوغرافية، فهو من المشروعات بعيدة المدي، ويحتاج إلى هيئة تعمل عليها لسنوات طويلة قادمة. ومع كل ذلك يجب أن نهتم بالمشاريع المحلية، والاستفادة من الأمطار والسيول لشحن مخزون المياه الجوفية، ثم تأهيل الشبكة الرئيسية للري، وترشيد استخدام المياه، والتحول من الرى بالغمر إلى الرى الحديث، مع زيادة إيرادات مصر من تحلية المياه من 700 مليون متر مكعب إلى 2 مليار متر مكعب.