الأهرام
عبد الجليل الشرنوبى
بين العدوان الثلاثى وفيلم (طير إنت)!
فى فيلم (طير إنت) للمخرج أحمد الجندي، يجسد الفنان (أحمد مكي) شخصية كاريكاتورية لممثل حساس جداً اسمه (سومة)، يُجرى معه أحد المذيعين لقاءً متلفزاً، يصرح خلاله الممثل الحساس بأنه بصدد التحضير لعمل تاريخى يجسد فيه أحد قادة جيوش العرب!، ورسالته الأساسية للغرب وتمثل توجها يشاركه فيه الفنان اللبنانى (جاد شويري)!، وفحواها (أننا كعرب لا علاقة لنا بالإرهاب، ومثل الغرب تماماً عندنا فتيات مثيرات يرتدين البكيني، وجميعنا بيعمل شوبنج، ومتفتحون زيكم)، من جانبه يؤكد المذيع (فعلاً إحنا مفتقدين القيم الجميلة دى فى حياتنا)!

يُلح هذا المشهد على مدخل الكتابة عن ذكرى العدوان الثلاثى على مصر، التى تحل، بينما عدد كبير من مدارسنا قرر الاحتفال اليوم (31أكتوبر) بعيد الهلع (الهالويين)!، ففى عقود ما بعد (كامب ديفيد)، كان على أمتنا أن تسير نحو طى ما كان لها حقاً، والإقرار بما كان عليها من أخطاء وإن كانت ملفقة. بتاريخ أكثر حداثة من أسطورة (المحرقة اليهودية)، وبتوثيق إنسانى حى لا يقبل منطق التشكيك فيه، تضافرت جهود أنظمة ثلاث، فرنسا وانجلترا و (الكيان الصهيوني)، حيث كانت فرنسا تتحين الفرصة للانتقام من النظام المصرى وعلى رأسه الرئيس الراحل (جمال عبد الناصر) بسبب مساندة ثورة الجزائر، وقرار تأميم (قناة السويس) التى كانت فرنسية الإدارة، بينما كانت بريطانيا تستهدف توجيه ضربة لمصر تقضى على (عبد الناصر) الذى هدد سلطانه سلطانها بتحقيق جلائها عن مصر وبتحالفه مع (الاتحاد السوفيتي) وأيضاً بتأميم القناة، أما (الكيان الصهيوني) فكان يبحث عن مصوغ لتدمير قوات الجيش المصرى فى سيناء لما تمثله من تهديد له، وأمام هكذا تضافر للمصالح رعت (فرنسا) اتفاقاً ثلاثياً أطلق عليه (بروتوكول سيفرز) عنوانه العريض (استخدام فرنسا وانجلترا وإسرائيل القوة العسكرية ضد مصر).

فى 29 أكتوبر 1956، هبطت القوات الصهيونية فى عمق سيناء ومنه إلى قناة السويس لإقناع العالم بأن القناة مهددة، وفى 30 أكتوبر أصدرت كل من بريطانيا وفرنسا إنذاراً يطالب بـ (وقف القتال بين الطرفين، ويطلب من مصر وإسرائيل الانسحاب عشرة كيلومترات عن قناة السويس وقبول احتلال مدن القناة بواسطة بريطانيا وفرنسا، لحماية الملاحة فى القناة، وإلا تدخلت قواتهما لتنفيذ ذلك بالقوة)، وهو ما رفضته مصر.

وفى مثل يومنا هذا (31 أكتوبر 1956)، هاجمت فرنسا وإنجلترا وطننا، حيث أغارت طائراتهما الحربية على القاهرة والقناة والإسكندرية، وبدأ الاحتلال (الأنجلو فرنسي) من بورسعيد التى تم ضربها بالطائرات والقوات البحرية تمهيداً لعمليات الإنزال الجوى بالمظلات، ليشهد وطننا فصلاً من فصول العزة لشعب قديم أبيّ يمتلك من مقومات القوة ما هو قادر على صد أكبر عدوان، وليرسم (البورسعيدية) لوحات خالدة تجسد وجه المصرى القادر على الصمود حتى جلاء المحتل بعد أقل من شهرين وتحديداً فى (23 ديسمبر 1956).

فى المسافة الزمنية الفاصلة بين العدوان الثلاثى عام 1956م، وبين إنتاج فيلم (طير إنت) 2009م، شهد الوطن وأهله خلال العقدين التاليين هزيمة مُرَّة، أعقبتها معارك استنزاف ثم انتصار وعبور فى نفس الشهر (أكتوبر) الذى كان فيه العدوان، وخلال أربعة عقود تلت عايشت أمتنا تدريجياً حالات تمييع للحق الذى كان لها، لتذوب مع سيادة ثقافة السلام، كل الفوارق بين السلام والاستسلام والتسليم، وبين التواصل والتبعية والانسحاق، وبين العدو الأكيد والخصم المحتمل والصديق المختلف والأخ المخالف، وبين الخطأ الإنسانى والخطايا النظامية، وبين حوار الأديان والحضارات وفرض الإملاءات والاشتراطات مصحوبة بالعقوبات.

وهكذا صار (سونة الحساس) نموذجاً يستهدفه من سعى للاحتلال واقعاً، ليكون هذا (السومة) هو المندوب المائع القادر على محو كل حق كائن، والساعى لنيل رضا المحتل عبر تبرير احتلاله للعقول بتعميم خطاب التبعية والدونية والدفاع عن النفس من تهم لا تنتهى قوائمها، تارة بالتخلف وثانية بدموية التعاليم الدينية، وثالثة برعاية الإرهاب وكلما سقطت تهمة قامت فى وجوهنا غيرها. استهدف المحتل الثلاثى تركيع مصر، التى تسعى نحو استرداد المكانة، فكان قبل ستة عقود ويزيد أن قرر استهداف الجيش باعتباره درعها الحامية، وركز على سيناء لتأمن الربيبة المزروعة على حدودنا الشرقية، وسعى للسيطرة على قناة السويس ليحاصر السيادة والاقتصاد، وكان أن مد أيادى عدوانه إلى العمق فى العاصمتين الأولى والثانية ليُخضِع الشعب فتنسحق الإرادة، ومر الزمن وبقى الاستهداف وإن تغير السلاح، لتصبح تنظيمات إرهاب مكاتبها مشهرة فى انجلترا وفرنسا، وأصبح التهديد سافراً موجها صوب الأهداف نفسها (سيناء الجيش الحدود الاقتصاد إخضاع الشعب)، وما عاد يبقى إلا تنبه شعبى يستدعى روح (البورسعيدية) وعياً ونضالاً وإدارة مواجهة وفنون مقاومة، لسانها لا يعترف بثقافة (سومة الحساس) المنبطحة، وخطابها يسرى مقاومة عنوانها الأمل والبناء، مردداً فى قلوب الناس (غنى يا سمسمية، غنّى ودقى الجلاجل، مطرح ضرب القنابل، راح تطرح السنابل، ويصبح خيرها ليّا).
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف