خيرية البشلاوى
أيها الحاكم المُنزه عن الجشع : أقِم العدل
كثيرون من أبناء الشعب المصري. ومنهم أصحاب رأي وكُتاب كبار يعتقدون أن "العدل" قيمة مشتهاة ولم تحقق بعد ثورتين كبيرين حدثتا في فترة لم تتجاوز ثلاث أو أربع سنوات..
المصريون منذ آلاف السنين عرفوا معني "العدل" وقدروه كأساس للملك. وطالبوا به وسجلوا إيمانهم المطلق به في وثائق أدبية جميلة تروي بفصاحة وحكمة عن مدي عمق الإيمان به كقيمة إنسانية وأخلاقية ذات أثر بالغ في إرساء قواعد الحكم ودعم العلاقة بين الحاكم والمحكومين.
والعنوان أعلاه مأخوذ من نص فرعوني يعود تاريخه إلي أكثر من ألفي عام قبل الميلاد وفيه يروي "شكاوي الفلاح الفصيح" حين وقع عليه ظلم كبير من بعض اللصوص الذين اعترضوا طريقه وسطوا علي حماره والحمولة التي فوقه واعتدوا عليه.
وفي عام 1970 قام المخرج شادي عبدالسلام "1930 ــ 1985" باقتباس "شكاوي الفلاح الفصيح" في عمل سينمائي بديع بنفس الاسم .. "لا تكمن أهمية الفيلم في النص البليغ فقط وإنما في مستوي اللغة البصرية والأداء التمثيلي والتشكيل الجمالي المدهش للمكان والصورة التعبيرية والإيقاع وعناصر الموسيقي "سليمان جميل" والجو المشبع بروح الفراعنة.
إنه عمل يفيض بالجمال الظاهر والخفي.. الكامن في كل العناصر وهو أيضاً عمل مصري خالص وعالمي بكل المعايير واستحق بجداره ما فاز به من جوائز في مصر والخارج ومنها مهرجان فينسيا السينمائي الدولي.
وفي هذه الأيام ما أحوجنا إلي عمل يُذكر القاصي والداني بقيمة "العدل" كما عبرت عنه الحضارة الفرعونية الإنسانية العظيمة التي ننتمي إليها. وبالأجداد الفراعنة الذين حاولت الجماعات الإرهابية طمس آثارهم الزاهية والمذهلة ليس فقط في أشكال العمارة وفنون الهندسة والرسوم بل أيضاً في الأدب والحكمة وأصول الحكم.. وللأسف حاولت بعض المسلسلات الدينية قديماً تجريدهم من القيم الإنسانية والدينية علماً بأنهم أول من آمنوا بفكرة التوحيد.
ومن يتابع فيلم "شكاوي الفلاح الفصيح" الذي يستحق العرض علي قنواتنا المصرية من آن لآخر وبالذات "قناة النيل الثقافية" أقول من يتابع هذا العمل لا يملك إلا مشاعر الحسرة علي الركود الذي أصاب المركز القومي للسينما الذي أنتج هذا الفيلم منذ 45 سنة "!!". وأخرجه بهذا المستوي المبهر. وأيضاً بالترحم علي فنان فذ مثل شادي عبدالسلام. إلي جانب الكتيبة التي شاركت في صنع هذا العمل من ممثلين ومصورين ومبدعين موسيقيين مثل سليمان جميل الذي استخدم آلة الهارب الفرعونية لإشاعة أجواء تناسب موضوع الفيلم.
شادي عبدالسلام بأعماله القليلة الأصيلة عالمية المستوي. مثل "المومياء" و"جيوش الشمس" و"كرسي توت غنخ امون" يبدو وكأنه نبت استثنائي في شجرة الإبداع السينمائي المصري. فلا تجد فروعا لنفس هذه الشجرة وحتي "المركز" الذي أسهم في تأسيسه لم يتبق منه غير مكان وموظفين ثم لا شيء آخر يثير الاهتمام.
الفيلم يعكس قدرة البلاغة والفصاحة وعذوبة المعاني واللغة عند الحديث علي "العدل". فاللغة قادرة علي الاستحواذ. والتسلل إلي العقل بالإضافة إلي الوجدان وقادرة بالتالي علي الإقناع والتأثير..
والفيلم علي قصره "20 دقيقة" ينتصر للعدل. ولشرع الإله. ويعكس للإيمان المطلق به من قبل الفراعنة..
هذا الفيلم القصير يُعَتبر مثالاً للعمل الفني الممتع والمُثِقف. والشاهد علي قيمة الفن والفنان وإنه بهذه الصفات عمل خالد لأنه يسمو بالإنسانية وينتصر للضمير.
وأتمني أن يكون في مراكزنا الثقافية في الخارج نسخاً من شكاوي "الفلاح الفصيح" حتي يراها من لم يره فيدرك أن صلابة المصري حتي في عصور الانحطاط الثقافي ذات جذور ضاربة في الضمير الإنساني ومنذ آلاف السنين.. أي منذ فجر الحضارة.