بوابة الشروق
اكرام لمعى
لماذا لم يحدث إصلاح دينى فى الشرق؟
ختمت مقالى السابق «مبادئ الإصلاح الدينى» بالقول: «إن مبادئ الإصلاح هى واحدة فى كل دين وكل دين يمكن لأتباعه أن يتفقوا على تنقيته من الشوائب والإضافات والتى علقت به على مدى مئات وآلاف السنين وقد قدمت نماذج من تلك الإضافات مثل إضافة القديسين إلى السيد المسيح فى الشفاعة وإضافة التقليد إلى الكتاب المقدس... إلخ» وقلت فى نهاية مقالى: «عزيزى القارئ ألم أقل لك إن طريق الإصلاح واحد فى كل الأديان؟».. وهنا انبرى كثيرون للإجابة عن السؤال بالرفض الكامل لهذه المقولة بل دُبجت مقالات ردا على طرحى هذا ألخصها فيما يلى: قال المفكرون المسلمون إن الشرق ليس كالغرب والإسلام ليس كالمسيحية، فالشرق حافظ على كتابه وإيمانه على مدى السنين الطويلة، ثم إن الإسلام ليس به كهنوت أو رجال دين أو صكوك غفران ولذلك نحن لا نحتاج إلى إصلاح بقدر ما نحتاج إلى تجديد الخطاب الدينى. أما المفكرون المسيحيون فقالوا إنه من المستحيل أن يحدث إصلاح فى الإسلام لأن كتابهم المقدس به آيات تحض على العنف، وتاريخ الغزوات يشهد بذلك وداعش والقاعدة، من هنا أبدأ فأقول: إن الإصلاح الذى وقع فى الغرب منذ خمسمائة عام وجاء إلى مصر فى القرن التاسع عشر لم يحدث للكنيسة المسيحية فى الشرق، فالكنيسة الأرثوذكسية المصرية فضلا عن الروسية واليونانية لم تقع بها حركات إصلاح، إذن الإصلاح لم يقع بسبب الكتاب المقدس أو الكنيسة فى الغرب، فقد عاشت الكنيسة فى الغرب بكتابها المقدس ألفا وخمسمائة عام بدون إصلاح وتعيش الكنيسة فى الشرق، وقد أكملت أكثر من ألفى عام دون إصلاح مشابه لما حدث فى الغرب، فالقصة إذن ليست كتابا ورسولا. أما الأمر الثانى والمهم فتعالوا بنا نستعرض معا كتب الأديان الثلاثة، ولنبدأ بالعهد القديم وهو كتاب اليهود المقدس وهو من أكثر الكتب الثلاثة عنفا، فهو لم يذكر مجرد آيات تحض على العنف لكنه يحتوى على أحداث وحروب شهدت أقسى أنواع العنف فى التاريخ وفيه تمجيد عظيم لهذا العنف ضد الأطفال والنساء والحيوانات... إلخ، ومع ذلك فالتاريخ اليهودى الحديث عاصر أكثر من حركة إصلاح وإعادة تفسير وتُعد دولة إسرائيل من أكثر بلاد العالم تقدما وتحضرا وهى البلد الوحيد الذى ينافس على جائزة نوبل للعلوم مع أمريكا وهى تطبق المواطنة والديمقراطية فى محيطها (عكس ما تفعله مع الفلسطينيين).. وهكذا نرى أن كتابهم المقدس لم يكن عائقا فى طريق تقدمهم العلمى والثقافى والسياسى، بل قدموا تنظيرا وتفسيرا جديدا يدعو للأخذ عند التفسير الثقافة وعصر الحداثة وما بعد الحداثة... إلخ. ثم تعالوا ننتقل إلى الإسلام ونستعرض مشروع مهاتير محمد فى ماليزيا وكيف تحولت ماليزيا من دولة متخلفة إلى دولة متقدمة بارزة وحُسبت ضمن النمور الآسيوية بجانب سنغافورة وهونج كونج وغيرهما، كذلك إندونسيا. وفى البلاد العربية نجد تونس تتطور بصورة ملحوظة لتواكب التقدم والتطور الإنسانى من مساواة المرأة بالرجل والديمقراطية وحقوق الإنسان. وقد كانت لى فرصة أن أشارك فى مؤتمرات حوار بها توانسة، ورأيت اجتهادات رائعة فى مفهوم الوحى والموقف من الآخر المختلف ومن الحروب المقدسة والمرأة... إلخ. بل أيضا لدينا النموذج الإيرانى الذى يرعب أمريكا وإسرائيل بقوته النووية.

***

إذن الخلاصة هنا أن المشكلة ليست فى طبيعة الدين ذاته فهناك مسلمون ومسيحيون ويهود أصلحوا ونقوا أديانهم من التفسيرات الخاطئة وقدموا تفاسير معاصرة نهضت ببلادهم، وهناك أيضا مسلمون ومسيحيون ويهود رفضوا أى إصلاح لأنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان، السؤال إذن: من ــ وما ــ الفاعل فى الإصلاح؟ هنا علينا أن نعود إلى التاريخ الإنسانى على الأرض وحتى يومنا هذا، لقد خلق الله الإنسان ووهبه عقلا وإرادة، العقل لكى يفكر به والإرادة لكى يحقق ما فكر فيه، وفى البداية كان الإنسان عاريا ضعيفا لا يملك من أمره شيئا أمام الحيوانات المفترسة والطبيعة الغاضبة بالزلازل والأعاصير والفيضانات، إلا أن هذا الإنسان بدأ فى استخدام عقله فاستطاع أن ينتصر على كل هؤلاء الأعداء، وهنا جاءت القاعدة أن البقاء للأصلح وليس للأقوى، ولأن الإنسان هو الأصلح لذلك بقى وتقدم وتطور من إنسان الغابة إلى إنسان الكوخ إلى الإنسان المعاصر مرورا بإنسان الريف والمدينة... إلخ ولقد انتقل الإنسان بخفة وثقة من عصر لآخر بفضل عقله الناقد لكل موقف وبيئة وبشر من حوله وتفادى السلبيات متبنيا الإيجابيات، من هنا بدأ فى مواجهة الأعاصير والزلازل والجوع والمرض بالتفكير الخرافى حيث اعتقد أن لكل ظاهرة من هذه الظواهر قوة غاشمة غير عاقلة يحتاج إلى أن يتعامل معها فبدأ فى تقديم ذبائح إنسانية وحيوانية لتفادى الموت بأى طريقة أو أسلوب لكنه لاحظ تكرار نفس الظواهر سواء فى مواعيدها (الفيضانات ــ الأعاصير) أو فى غير مواعيدها الزلازل والوحوش... إلخ، فانتقل بإرادته ليس كفرد بل بإرادة جماعية من عالم الخرافة إلى عالم الأساطير والأسطورة.. فكر يتقدم على الخرافة فالأسطورة قصة بها جانب واقعى زمنى تاريخى صحيح وبها جزء خيالى لكن هذه التوليفة يخرج منها الإنسان بحكمة تساعده على استكمال الطريق والرقى وهناك فارق كبير بين أن يخترع الإنسان الأسطورة ويصدقها ويحكيها وبين أن يعى دلالاتها.

ولقد عاش الإنسان، منذ البدء يشعر بحاجته إلى اختراع الأسطورة وجعلها جزءا من حياته فمنذ بداية الوعى الإنسانى وقبل أن يخترع العقل البشرى أى شىء آخر اخترع الحكاية التى كانت هى الأسطورة فى البداية. وعلى مر الزمن طور الإنسان علاقته بالأسطورة التى سرعان ما أصبحت جزءا أساسيا من تاريخ الوعى الإنسانى وتعبيرا عن تطوره حتى قبل عصر الشعراء هوميروس والإلياذة والأوديسا... إلخ. وقبل أن يتفلسف مع الإغريقيين حيث طرح أسئلته عن وجوده فى الكون، وسر هذا الوجود، والقوى التى ساوره منذ البداية شعور حاد بأنها تُسير هذا الوجود وتتحكم فى حركته. وعندما جاء عصر الفلاسفة قام الفلاسفة بربط الأسطورة بوعى الإنسان ومن ثم منهجه التاريخى وتطوره إذ تحول الإنسان إلى إنسان واعٍ من هنا استطاع أن يتقبل إعلان الله عن ذاته من خلال الدين الذى جمع فى داخله الفلسفة والفقه واللاهوت والتاريخ السابق لهم، فهذه السيرورة الإنسانية هى إلهية وكونية تتحقق داخل الوعى البشرى وليس خارجه من هنا نرى أن الابتكارات التى توصل إليها الوعى الإنسانى على مدى مئات وآلاف السنين عبر البدائية فالخرافة فالأسطورة فالشعر فالفلسفة فالدين إنما هى تصور الخالق بوصفه إلها واحدا أى إلها منطلقا من ذاته وإن كان الوعى البشرى قد وصل إلى هذا عن طريق أشكال وأساليب متنوعة، فإن الخالق طبقا لهذا التصور هو الكينونة المطلقة أو الكائن المطلق ولابد لهذه الكينونة أن يكون لها تموضع ذاتى، كينونة لها ذات هى الروح ومن خلال الإرادة الإلهية وفعلها نجد سيرورة خلاقة لها امتدادها فى الوعى الإنسانى البشرى.

***
ثم جاء عصر العلم ليضيف للوعى الإنسانى بُعدا جديدا من خلاله يُقَيِّم كل تاريخه بدءا من الخرافة إلى الدين مرورا بالأسطورة والشعر والفلسفة، وقد أضاف العلم من خلال اكتشافاته واختراعاته، وهو ما أعطى الدين القدرة على الاستمرار من جهة وإسقاط كل ما هو متعلق بالدين أو جوهره ولم يكن فى أصله، فلم يكن الدين فى يوم من الأيام ضد العلم، وكذلك لم ولن يكون العلم ضد الدين، وهكذا تقف شعوب الأرض بهذا التراث العظيم للإنسانية بدءا من عصر البداءة إلى الخرافة إلى الأسطورة إلى الدين إلى العلم تراث إنسانى عظيم من خلاله يعلن الله عن نفسه بالمقدار الذى يستوعبه الإنسان وهكذا يقف إنسان العصر فى تفاعله مع تاريخه بكل زخمه من ناحية وأديانه من الناحية الأخرى مهما كانت ليقرر هل تحتاج هذه الأديان إلى إصلاح أم لا تحتاج؟. فالذى يصنع الإصلاح الدينى ليس الدين كما ورثناه ولا الكتب المقدسة التى بين أيدينا لكن الذى يقوم بالإصلاح هم البشر الذين يستوعبون ماضيهم وحاضرهم ويتطلعون إلى مستقبلهم يقترحون تفاسير جديدة لكتبهم المقدسة تنقلهم للعالم الحاضر وتُعدُّهم للعالم المنتظر.
فالإنسان هو القضية والإنسان هو الحل.

إذا الشعبُ يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلى ولابد للقيد أن ينكسـر
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف