فرضت نتائج الاستفتاء الكردى وما تلاها من تطورات وصولا إلى دخول الجيش العراقى المناطق المتنازع عليها -عددا من الحقائق التى من المهم الالتفات إليها ونحن نتكلم عن مستقبل الدولة العراقية، الحقيقة الأولى هى أن هناك قسما من الشعب العراقى يرفض البقاء تحت مظلة الدولة العراقية، يستوى فى ذلك أن تُقدر المصادر الكردية نسبة هؤلاء الرافضين بـ92% من الشعب الكردى أو تقدر المصادر العراقية هذه النسبة بأنها 40% فقط ففى الحالتين لابد من الإقرار بأن هناك عددا يعتد به من المواطنين العراقيين لا يقبل سلطة المركز. الحقيقة الثانية هى أن مشروع الدولة الكردية قد طويت صفحته إلى أجل غير مسمى فلن يغامر زعيم كردى بتكرار تجربة مسعود البرزانى فى حدود الأمد المنظور، لكن طى صفحة الانفصال لا يعنى تمزيقها بل يعنى إمكانية العودة لها فى سياق جديد وظروف مختلفة. الحقيقة الثالثة هى أن الدولة العراقية قد بدات فى وضع يدها على المنافذ الحدودية للإقليم مع تركيا وسوريا وسيطرت على كركوك المدينة الغنية بالنفط والتى تمدد فيها وفى غيرها الإقليم، وهذا يعنى العودة إلى حدود ما قبل عام 2003 هذا العام الذى كان بداية التمدد الكردى خارج نطاقه وصولا لاقتطاع مساحة تقارب مساحته الجغرافية الأصلية عشية الاستفتاء .
وعيا بهذه الحقائق الثلاث فإن التفكير البنّاء فى مستقبل العراق الشقيق يقوم على ركيزتين أساسيتين تهما إعادة كردستان للعراق وإعادة العراق لكردستان. فيما يخص الركيزة الأولى فالمقصود بها ليس إفشال المشروع الانفصالى عسكريا لكن تغيير الفكر مستمرا الانفصالى نفسه، فمادام هذا الفكر فسيذهب مسعود ويأتى مسعود آخر حتى وإن ألغيت نتائج استفتاء 25 سبتمبر. لقد نجح قادة الأكراد أن يرسخوا فى ذهنية المواطن الكردى الشعور بالاضطهاد، وسمعنا عجبا فى غمرة حماس الأكراد لإجراء الاستفتاء فهناك من قالوا باقتناع امس نرفض أن نكون مواطنين من الدرجة الثانية! والسؤال هو: إذا كان هذا الشعور قد تولد لدى الأكراد وقيادتهم تحتكر نفط الإقليم لا بل ونفط كركوك وتبيعه دون حسيب ولا رقيب، وإذا كان مكتب العلاقات الخارجية فى حكومة الإقليم يصدر تأشيرات لزيارة كردستان دون علم حكومة بغداد، وإذا كان للبشمركة جيش مواز لجيش العراق فكيف إذن سيكون شعور الأكراد وقد صارت القوات العراقية على تخوم إقليمهم ومسعود برزانى يروج للنية العراقية المبيتة لاسترداد كركوك بتواطؤ مع الاتحاد الوطنى الكردستانى؟.
هذا الوضع يحتاج التعامل معه بحساسية شديدة وبروح تهدف إلى تغيير الشعور بالمظلومية الكردية، وأثق فى حكمة السيد حيدر العبادى فى التأكيد على أن ما تحقق هو تقوية للدولة العراقية المتنوعة وليس الانتقام من القومية الكردية . ولحسن الحظ فإن نجيرڤان برزانى الذى سيصير الحاكم الفعلى للإقليم تربطه علاقة طيبة ببغداد كما بطهران وأنقرة، وهو شخص مرن وتوافقى عارض تفرد مسعود بالسلطة وكانت له معه جولات فى هذا الشأن كما طالب بتأجيل الاستفتاء ولم يستمع له مسعود. وحتى يعود الإقليم للعراق فإن من المهم أيضا عدم التعويل على التناقضات الحزبية والقبلية الكردية بمعنى عدم تصعيد الاتحاد الوطنى على حساب الحزب الديمقراطي، فالشقاق بين الحزبين عميق بالفعل والمواجهة المسلحة بينهما لا ينقصها إلا عود ثقاب، ودور بغداد أن تكون عامل تهدئة للأوضاع فى الإقليم فاستقرار الكل يرتبط باستقرار الجزء.
أما فيما يتعلق بعودة العراق للإقليم فالمقصود به وضع التجربة الفيدرالية فى سياقها الصحيح بعيدا عن التجاوزات التى حولت كردستان لدولة داخل الدولة. لقد تحقق تقدم ملموس فى ملف المنافذ الحدودية كما سبق القول وهذا مهم ليس فقط لأنه مرتبط تماما بقضية سيادة الدولة لكن كذلك لأنه يضع حدا لممارسات غريبة كان قد تواتر العمل بها مثل تحصيل كردستان جمارك على واردات بغداد من الخارج واحتكار الإقليم عوائد بيع النفط لصالحه. وسيسمح هذا التطور بأن تذهب عوائد بيع النفط لخزانة الدولة وبالتالى بأن تستأنف بغداد تحويل نسبة الـ 17% من ميزانيتها للإقليم - وهنا ليس من المصلحة الانسياق وراء دعاوى خفض هذه النسبة إلى 15% فالرسالة التى يبعث بها هذا التخفيض رسالة سلبية عموما وفى هذا التوقيت خصوصا . ومن الضرورى أيضا وقف ازدواجية السلطة فيما يخص العلاقات الخارجية التزاما بالدستور، فضلا عن دمج البشمركة فى الجيش العراقى وهذه هى الخطوة الأصعب لكن الاشتغال عليها لا مناص منه. وأخيرا هناك حاجة لتعزيز حضور الثقافة العربية فى كردستان وبالذات فى أربيل فاللغتان العربية والكردية لغتان رسميتان بنص الدستور بينما هناك جيل كردى وربما اثنان لا ينطقان العربية ولا يقرأنها.
إن معارك الإعمار والبناء عادة ما تكون أصعب من معارك الهدم والتدمير ، وفى معركة بناء عراق ديمقراطى متعدد فيدرالى لكل أبنائه - أيادينا ممدودة على استقامتها فقوة كل بلد عربى من قوة البلدان الأخرى والعكس أيضا صحيح.