الأهرام
د. محمد يونس
«بلفور».. مئوية مشروع «استعمارى»
نعايش هذه الأيام الذكرى المئوية لصدور «وعد بلفور» الذى وضع قاعدة لتأسيس «إسرائيل» فى الأراضى الفلسطينية. والذى لا يزال وطننا العربى يعانى آثاره وتداعياته، لذا فإن هذه الذكرى المؤلمة تتطلب وقفة تتجاوز مجرد الانشغال باعلان رئيسة وزراء بريطانيا - الدولة التى صدر عنها الوعد المشئوم - انها ستحتفل بفخر بهذه المئوية، أو الوقوف عند الرد الفلسطينى الغاضب والمطالب بتقديم اعتذار للشعب الفلسطينى على «وعد من لا يملك لمن لا يستحق».

الأكثر أهمية هو إعادة قراءة أحدث التاريخ المعاصر وحركتنا فى الواقع، ليس فقط للتعرف على الأسباب الحقيقية لهذا لوعد والأطماع التى يشير اليها وتداعياته، وإنما أيضا للوقوف على حقيقة دورنا وحركتنا نحن العرب على مدى قرن من الزمان، وما إذا كنا نتعلم من التاريخ أم ان التاريخ هو الذى يعلم علينا!.

بداية فإن هذا الوعد لم يكن حبا فى اليهود من جانب الغرب وانما رغبة فى التخلص منهم، يوضح ذلك صاحب موسوعة الصهيونية الدكتور عبد الوهاب المسيرى:- رحمه الله - بقوله «مع النصف الأخير من القرن التاسع عشر، تدفق يهود اليديشية من شرق أوروبا إلى غربها، وبدلًا من أن تشتغل أوروبا باستقبال اللاجئين الجدد، انشغلت بما يُسمى «التخلص من الفائض اليهودي» من خلال دعم الصهيونيّة لتوطين اليهود فى أى مكان خارج أوروبا، ولو راجعنا تاريخ بريطانيا سنجد أن السير آرثر بلفور (صاحب الوعد) نفسه تبنّى «قانون الغرباء» الذى صدر بين عامى 1903 و1905 والذى كان يهدف إلى وضع حد لدخول اليهود اليديشيّة إلى بريطانيا!. ولكن الامر لم يكن مجرد التخلص من اليهود وإنما كان يرتبط بمشروع استعمارى وخطة لإجهاض أى نهوض عربى فى الشرق الاوسط. فاذا تأملنا الاحداث نجد ان الوعد المشئوم، جاء بعد عام من اتفاقية سايكس بيكو الموقعة عام 1916 لتقسم نفوذ الدولة العثمانية بما فيها الوطن العربى بين انجلترا وفرنسا وروسيا القيصرية، ونصت الاتفافية على بقاء فلسطين تحت إدارة دولية يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين هذه الدول الثلاث وكان السقف الزمنى للاتفاقية التى مزقت الوطن العربى الكبير الى دول متصارعة مُتناحرة فيما بينها، 100 عام اى انه انتهى هذا العام المفعول الرسمى لها، ولذلك تتسارع الاحداث لاتفاق تقسيم جديد فيما يعرف بـ«سايكس بيكو 2» التى كان من إرهاصاتها تقسيم السودان وتلوح فى الأفاق اليوم خارطة جديدة للتقسيم فى سوريا وليبيا والعراق.

وحين ظهر الوعد المشئوم ومن قبله اتفاقية التمزيق، كانت مناطق الوطن العربى تحت نفوذ الدولة العثمانية رسميا وتحت الاستعمار الغربى فعليا، ولا مجال هنا للحديث عن اسباب الاستعمار التى لخصها الباحثون فى انها ترجع الى اطماع خارجية وضعف داخلي فيما اطلق عليه المفكر مالك بن نبى (القابلية للاستعمار).

ولكن ماذا حدث بعد الاستقلال؟ هل استعاد العرب قوتهم ونفوذهم الذى يتناسب مع قدراتهم وامكاناتهم وموقعهم وقدراتهم وثرواتهم؟ هناك دول كانت مثلنا تحت الاستعمار كالهند وزاملتنا فى حركة التحرر الوطنى، ولكن شتان بين ما بلغته الهند من تقدم علمى ونفوذ وحضور على الساحة الدولية وبين ما بلغناه نحن.

بعد مرور مائة عام على الوعد وخمسين سنة على النكبة ماذا فعل العرب هل استعادوا فلسطين؟ هل حققوا الوحدة العربية الاقتصادية على الاقل والتى ظهرت ارهاصتها قبل الوحدة الاوروبية؟ هل تعلموا من درس الطوائف فى الاندلس؟ هل ادركوا أن المقصد الاساسى من زرع اليهود وسط المحيط العربى هو الحيلولة دون تأسيس أى قوة عربية تتمتع بالاستقلالية فى قرارها السياسي؟.

لم تحدث - بعد الاستقلال - نهضة تحقق امانى شعوب الوطن العربي، ولم تحل ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان، لم نتمتع بقدر من التعاون الاقتصادى، وفشلت تجارب الوحدة العربية، وبعد إغلاق باب الحرب مع اسرائيل فتحت ابواب عديدة للحروب داخل الدول العربية التى أصبحت ساحات لقتال حاليا بينما تنعم اسرائيل فى هدوء!

المشكلة لا تكمن فقط فى وعد جاء من الخارج (بلفور) وتحقق، وإنما ايضا فى الوعود الزائفة التى بزغت فى الداخل ولم تتحقق، وفى عدم رغبتنا فى التعلم من دروس التاريخ ولا حقائق العصر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف