الأهرام
د . هشام مراد
لماذا فشل انفصال كردستان ؟
فشلت خطة أكراد العراق فى الإنفصال وتراجعت حكومة كردستان معلنة إستعدادها لتعليق نتائج الإستفتاء على الإستقلال مقابل فتح حوار مع حكومة بغداد حول مستقبل العلاقة بين الإقليم المتمتع بالحكم الذاتى والعراق. وهو العرض الذى رفضه رئيس الوزراء العراقى حيدر العبادى، مطالبا حكومة كردستان بإعلان إلغاء نتائج الإستفتاء قبل إجراء أى مفاوضات.
لم يكن ذلك التراجع الكردى هو النتيجة الوحيدة لفشل فرض نتائج الإستفتاء، إذ أعلن مسعود برزانى رئيس إقليم كردستان تنحيه عن السلطة إعتبارا من أول نوفمبر 2017 وعدم ترشحه من جديد لرئاسة الإقليم. وقرر برلمان كردستان توزيع سلطاته "الرئاسية" على السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية. وتلك نتيجة منطقية لفشل خطة بارزانى فى إعلان الإستقلال. إذ انه كان يواجه معارضة داخلية قوية لأسباب متعددة منها سياسته الطائفية وإنتشار الفساد وسيطرة عائلته على السلطة السياسية والنفوذ الإقتصادى. كما أن بقاءه على رأس السلطة السياسية كان يشوبه عوار دستورى وإنعدام للشرعية لأن فترته الرئاسية إنتهت فى 2013 وقام البرلمان بتمديدها حتى أغسطس 2015 دون إجراء إنتخابات. وكان برزانى يعول على نجاحه فى فرض نتائج الإستفتاء لكى يسبغ على نفسه شرعية جديدة تمكنه من الإستمرار فى الحكم. لكن العواقب السلبية التى ترتبت على الإستفتاء أجبرته على التنحى.
وأول تلك العواقب وأكثرها فداحة تمثل فى تراجع سيطرته على أماكن واسعة من الأرض لصالح الجيش العراقى الذى تمكن من إستعادة منطقة كركوك الغنية بالنفط ومدينتى نينوى وديالى، وهى مناطق متنازع عليها بين حكومة بغداد وكردستان. كما عمدت بغداد للسيطرة على كل المعابر البرية التى تربط بين الإقليم والدول المجاورة، وهى تركيا وإيران وسوريا، بهدف العودة إلى حدود كردستان التى كانت قائمة عام 2003، أى قبل الغزو الأمريكى للعراق. ويعنى ذلك عزل الإقليم عن محيطه الإقليمى وحرمانه واقعيا من جزء كبير من عائدات تصدير وتهريب البضائع لدول الجوار. وتتمثل خسارته الأساسية فى فقدان نصف عائدات تصدير البترول بعد خسارة مدينة كركوك. إذ انخفضت صادرات كردستان التى تمر عبر خط الأنابيب إلى تركيا من 500-600 ألف برميل يوميا إلى 250 ألف فقط منذ إستعادة الجيش العراقى المدينة البترولية. وسوف يزيد ذلك من فداحة الوضع الإقتصادى الذى تعانى منه حكومة كردستان التى بلغت مديونيتها الداخلية والخارجية نحو 20 مليار دولار، الأمر الذى جعلها عاجزة عن دفع مرتبات ثلاثة أرباع موظفيها.
وقد أظهر التراجع العسكرى السريع للبشمركة ضعف القوات الكردية وعجزها عن مواجهة الجيش العراقى بدون مساعدة خارجية، وتحديدا من القوات الأمريكية. وقد نشأ أنطباع قوة البشمركة - خلال تقدم تنظيم داعش فى شمال العراق وفرار الجيش العراقى - بفضل المساعدات العسكرية التى قدمتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيين من سلاح وتدريب ودعم لوجستى. وهو ما مكن القوات الكردية من الإستيلاء فى صيف 2014 على بعض المناطق التى إنسحب منها الجيش العراقى، وهى المناطق التى يطالب الأكراد بضمها إلى كردستان. وقد عمدت الولايات المتحدة إلى تجاوز الحكومة العراقية وتجاهلها خلال تقديمها المساعدات العسكرية للبشمركة باعتبارها القوات الأكثر فعالية فى مواجهة متطرفى داعش. وقد أعطى ذلك الأكراد إحساسا مبالغا وزائفا بالقوة والمنعة جعلهم يضربون عرض الحائط برغبة واشنطن فى إرجاء الإستفتاء على الإستقلال.
كما أن برزانى، زعيم الحزب الديمقراطى الكردستانى، وهو أحد الحزبين الرئيسيين فى كردستان، تجاهل الخلافات الهامة والواسعة مع الحزب الكبير الأخر، وهو الإتحاد الوطنى الكردستانى، حول إنفراده بالسلطة وسياسته فى الإقليم وتجاه بغداد. وهو ما ترتب عليه إنسحاب قوات الإتحاد الوطنى الكردستانى من منطفة كركوك دون قتال أمام تقدم الجيش العراقى. والواقع أن بغداد نجحت قى التوصل لإتفاق مع قوات البشمركة التابعة للإتحاد الوطنى الكردستانى تنسحب بمقتضاه من المنطقة دون قتال فى مقابل مجموعة من الإمتيازات السياسية والإقتصادية. وهكذا نجحت بغداد فى إستغلال الخلافات السياسية الداخلية الكردية لمصلحتها. فموقف الإتحاد الوطنى الكردستانى يرجع جزئيا لتهميشه السياسى داخل كردستان منذ 1997، أى منذ هزيمته العسكرية أمام قوات الحزب الديمقراطى الكردستانى خلال الحرب الأهلية الكردية التى دارت رحاها فى النصف الثانى من التسعينات بسبب الخلافات حول الهيمنة على الإقليم. كما أن تهميشه سياسيا يفسر جزئيا معارضته لإجراء الإستفتاء. فالإتحاد الوطنى الكردستانى كان يسعى لحرمان غريمه الحزب الديمقراطى الكردستانى من المكاسب السياسية والإقتصادية التى يمكن أن تترتب على نجاح تطبيق نتائج الإستفتاء. ومن ثم كان موقفه المعارض الذى تمخض عن التقارب مع بغداد وهزيمة الحزب الديمقراطى الكردستانى وتنحى برزانى. ولاشك أن الإتحاد الوطنى الكردستانى سوف يصعد سياسيا خلال الفترة المقبلة مستفيدا من تراجع منافسه.
إلا أن الخطأ الأكبر لقادة كردستان تمثل فى سوء تقديرهم ومبالغتهم لأهمية الإقليم فى إستراتيجية الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط. فقد سعى هؤلاء لتقديم إقليمهم للأمريكيين على أنه القوة الأهم ضد نفوذ إيران المتنامى فى العراق. وقد إقتنعت واشنطن لفترة من الزمن بذلك. ولذلك أغدقت على البشمركة السلاح والعتاد والتدريب خاصة خلال فترة تولى رئيس الوزراء العراقى نورى المالكى من 2006 إلى 2014 والتى تقارب فيها بشدة من طهران. لكن الأمور بدأت فى التبدل مع تولى حيدر العبادى مقاليد السلطة فى البلاد فى سبتمبر 2014، حيث سعى لإدخال قدر من التوازن فى علاقاته الخارجية بعيدا عن ايران. وكانت النتيجة الأولى لذلك هو تقاربه مع المملكة السعودية، التى أعادت فتح سفارتها فى 2015. وظل التحول بطيئا فى العلاقات بين الدولتين حتى الزيارة الهامة لوزير الخارجية السعودى عادل الجبير لبغداد فى فبراير 2017 إيذانا بإستئناف العلاقات الثنائية، أعقبها زيارتين للعبادى للرياض فى يونيو وأكتوبر 2017. وأقنعت تلك السياسة العراقية الولايات المتحدة وقوى إقليمية كالسعودية أن بغداد تسعى لتقليل النفوذ الإيرانى فى العراق وإنها بحاجة لدعم الدول الأخرى لتحقيق ذلك. وهو ما أدركته الرياض وواشنطن. ويهم الدولتان مساعدة العراق فى هذا المسعى. وبالنسبة لواشنطن، فإن أهمية بغداد تفوق بكثير أربيل. ولذلك عارضت، ضمن أسباب أخرى، إجراء إستفتاء إستقلال كردستان فى هذا التوقيت، مبدية إستيائها من تسرع الأكراد فى إعلانه وضربهم عرض الحائط بإقتراحها تحويل قضية علاقة كردستان المستقبلية بالعراق للأمم المتحدة. وربما كان من شأن فشل المنظمة الدولية فى معالجة تلك القضية إقناع الولايات المتحدة بمنطق الأكراد فى ضرورة إجراء الإستفتاء، نظرا لعدم نجاح المحاولات الأخرى.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف