«ربنا خلقنى طبيب أوصف الحالة.. هوه خلقنى كده.. أبقى عارف الحقيقة وأشوفها.. ودى نعمة من ربنا اديهالى.. اسمعوها منى.. لأن حتى همه دلوقتى فى كل الدنيا.. ولا إيه؟.. بيقولك لأ اسمعوه.. مين الدنيا.. خبراء المخابرات والسياسيين والإعلاميين وكبار الفلاسفة لو حبيتو.. بقى ابتدوا يفهموا إن الكلام اللى إحنا بنقوله إنه كلام نقى وشريف وأمين». الفقرة السابقة جزء من كلمة الرئيس عبدالفتاح السيسى خلال لقائه مع الجالية المصرية بألمانيا. وهى تحمل مضموناً عجيباً يصعب التعامل معه على مستوى التحليل، فهى تتشابه إلى حد كبير مع ما يردده المتصوفة من كلام ملغز تتلاشى فيه الحدود الفاصلة بين السماء والأرض، قد يكون لهذا الكلام معنى عند من يقوله، لكنه بالنسبة للمستمع يبدو معقداً ملغزاً غير مفهوم، وحتى من يفهمه فإنه لا يستطيع أن ينفى عنه التحليق والشطط، وبإمكانك أن تراجع أى نص صوفى بنفسك لكى تتأكد.
وحقيقة الأمر فإن لجوء الرئيس إلى الارتجال فى إلقاء كلماته وخطاباته أصبح يحتاج إلى إعادة نظر. فهو يعبر فى النهاية عن دولة وليس عن نفسه، والفقرة السابقة التى استدعيتها تدلل على هذا الأمر بلا مواربة، فقد غلب على خطابها الذاتية المفرطة، ولم تحمل معلومات متماسكة حول موضوع استيعاب العالم للتحولات التى تشهدها مصر بعد 30 يونيو، إذ لم يشتمل هذا الطرح العام على المؤشرات الواقعية والعملية الدالة على ما يقول الرئيس، فظهر الكلام وكأنه يحلق فى الهواء الطلق. والسر فى ذلك هو الارتجال، لذلك فمن الأفضل أن يعتمد الرئيس على الخطابات المكتوبة بتأنٍ وبشكل هادف، على أن يكتفى بقراءتها، كما يفعل أغلب الرؤساء، فالخطاب المقروء أكثر انضباطاً من الخطاب المرتجل، فالأول يخضع للمراجعة والضبط والتصويب، أما الثانى فيأتى عفو الخاطر، ويخضع لضغوط الموقف الاتصالى بصورة أو بأخرى، وللحالة المزاجية للمتحدث.
ربما زعم البعض أن هذا النوع من الخطاب يروق للمصريين، حتى ولو كان خطاباً محلقاً من النوع الذى تحمله الفقرة التى أتحدث عنها، انطلاقاً من أن المصريين بطبيعتهم محبون للصوفية والتصوف وميالون إلى الدروشة، وإلى الإحساس بأن العالم كله يسمع لهم ومنهم، بسبب نقاء سريرتهم وشرف كلمتهم، فيتملك رجال المخابرات والسياسيين والإعلاميين وحتى كبار الفلاسفة شعور بالخزى والعار على فكرتهم المبدئية السيئة عنا، لتتبدل بمجرد أن يسمعونا ويدركوا أننا الأنقى والأشرف والأجمل والأفضل.
إننا يا سادة نعيش فى عصر مختلف، فى وقت تؤدى فيه الرئاسة بطرق تبدو قديمة، ولو كان هناك من يتابع ردود الفعل على خطب الرئيس داخل مؤسسة الرئاسة لعلم أن شباب الفيس بوك تلقف هذه العبارات، وهات يا تعليقات، لأن الفقرة التى تم تداولها بالصوت والصورة تغرى بالفعل بالتعليق، لما تحمله من كلمات ومعانٍ شديد الغرابة والنبو. ولست أدرى هل تم ترجمة هذه الفقرة إلى الألمانية لتوضع ضمن تقرير يقدم لصناع القرار هناك بعد زيارة الرئيس لألمانيا أم لا؟. ولو كان ذلك يتم -وهذا هو الأرجح- كيف سيستقبل الألمان هذا الكلام؟!.