صلاح سالم
الحركة البروتستانتية على طريق العلمانية
كنا قد أشرنا فى حديثنا السابق إلى أن المصلح البروتستانتي مارتن لوثر لم يكن مارقا على الإيمان المسيحى، ولا رسولا للعقلانية، ولا نبيا للحرية الإنسانية، لكن المفارقة هى أن حركته قد أفضت إلى توسيع الطريق إلى تلك المسارات جميعا، ولعل هذا هو دهاء التاريخ، الذى يسير أحيانا إلى مقاصده الأسمى عبر كوات صغيرة ونوافذ ضيقة يتم فتحها فى لحظة مواتية لاغتنام الفرص، وترجمة التراكمات الكمية إلى تحولات طفرية وقفزات نوعية؛ فإذا بضوء نافذ فريد يعم الأركان ليبدد ظلام الكهوف. كانت المهمة الأساسية للحركة الإصلاحية تتمثل فى تقديم خيار الإيمان الفردى بعد طول سيطرة من الروح الجمعية، والنزعة الطقوسية، إذ لم تكن البابوية، ولا عصمتها، ولا ادعاءاتها بالقداسة، سوى محاولة للهيمنة على النص / الحقيقة، وعلى الجماهير / السلطة. وعلى هذا لم تكن الكنيسة الكاثوليكية بالنسبة إلى مارتن لوثر سوى بابل، أى مملكة دنيوية متوحشة، ولم يكن البابا سوى المسيح الدجال، فكتب عنهما ناقدا لهما ما نصه: ليس مُستغرباً أن يجعل الله السماء تمطر ناراً، وأن يغرق روما فى الهاوية، كما فعل بسدوم وعمورة فى الأمس القديم، فالبابا هو المسيح الدجالس. ويضيف متحديا: زإذ لم يكن المسيح الدجال فليقل لى أحد من هو إذاً؟. ومن ثم سعى لوثر وعلى منواله كالفن وزونجلى، الرواد الكبار للحركة، إلى تفكيك السلطة البابوية، ما أدى فى النهاية إلى بذر حبوب النزعة الفردية، والدولة القومية، وصولا إلى العلمانية السياسية، وذلك عبر طريقين:
الطريق الأول هو ميلاد مفهوم التسامح الدينى، بفعل انقسام الكنائس البروتستانتية إلى طوائف كبرى وفروع صغرى، على نحو مهد السبيل لنزعة الشك الدينية؛ فالعقل النزاع بطبيعته إلى التساؤل، حين يرى مشهداً يضم معتقدات متناقضة، كل منها يزعم احتكار الحقيقة، لابد وأن يتخذ من هذا المشهد ذاته بينة على أنه لا وجود هناك لحقيقة واحدة مطلقة حتى يحتكرها هؤلاء. إنه الطريق الذى سار عليه جون لوك فى رسالته عن التسامح، متجاوزا المفهوم المسيحى للخلاص قائلا: «إن الطريق الضيق الذى لا طريق سواه، والذى يؤدى إلى السماء، لا يعرفه القاضى بأفضل مما يعرفه كل إنسان لنفسه؛ لذلك لا أستطيع أن أتخذ من هذا القاضى هادياً يهدينى، لأنه قد يكون على جهل بالطريق مثل جهلى، والمؤكد أنه أقل اهتماماً بنجاتى منى بنجاة نفسى. لهذا كان روح الفرد من شأن صاحبه وحده دون سواه، ولابد أن يُترك وشأنه فيه. وعلى هذا الأساس يتساءل لوك: كيف يجوز للسلطان المدنى أن يتدخل فى عقيدة أى فرد من الأفراد مع أن لهذا الفرد عنصراً عقلياً خاصاً به لا يشاركه فيه إنسان آخر؟
وأما الطريق الثانى فهو تمزيق الوحدة الشكلية التى أبقت عليها المسيحية الكاثوليكية لنحو ألف عام، تمتد بين القرنين الخامس والخامس عشر الميلاديين، عاشت خلالها أوروبا ما اصطلح عل تسميته بالعصور الوسطى، في حالة من التجانس الثقافي العام كحضارة مسيحية تحت إمرة الإمبراطورية الرومانية، على أرضية البنية الإقطاعية. نعم استمر الله رب الأوروبيين أجمعين، بعد حركة الإصلاح كما كان قبلها، ولكن الممارسة العملية فى الحياة اليومية دفعت الكنائس القومية الجديدة، التى تخضع لسلطان حاكم إقليمى، إلى التوقف عن الإسهام في الحياة الدينية التى كانت الكنيسة الكاثوليكية قد رسختها، حيث عملت البروتستانتية، خصوصا في صورتها اللوثرية، كدعامة لتعزيز المشاعر الوطنية لأبناء الدول الإقليمية الجديدة. ففى كل المناطق التى انتصرت فيها الحركة الإصلاحية صار الأمير رئيساً للكنيسة، واُعتبر رجال الدين مجرد مساعدين له؛ وتحولت الممتلكات الكنسية جزئياً إلى ملكية الدولة، ولم تعد تنهض بمهمة جمع الضرائب لصالح البابوية فى روما. وقد أفضى غياب الرئاسة العالمية / البابوية عن المذهب البروتستانتى، إلى تطابق المذهب مع الشعور القومى الوليد آنذاك؛ ففى بريطانيا، على سبيل المثال، كان الملك هو رأس الكنيسة الأنجليكانية (كنيسة نشأت فى عقب انعقاد مجمع لاترانت، على سبيل التوفيق بين العقائد الكاثوليكية الأساسية وبين جوهر الحركة البروتستانتية، خصوصا مفهوم الكنيسة القومية). كما كان المذهب البروتستانتى أكثر توا--ؤما مع حركة الفكر العقلانى، حيث كان رجال الدين البروتستانتى يقبلون على التعليم فى الجامعات المدنية، ومن ثم كانوا أكثر تأثرا بالتفكير العقلانى الجديد، وأكثر استيعابا للثورة العلمية البازغة من الكاثوليك. وقد عمق التفكير العقلانى هذا من نزعة التحرر لديهم، كما زاد من عدد الطوائف التى شكلوها تعبيرا عن تصوراتهم العقدية، وإن لم يصل الحال إلى الحرية التامة للعقيدة، حيث كان الملحدون يعانون الاضطهاد على نحو يضطرهم إلى عدم إعلان إلحادهم، وهو أمر استمر حتى شيوع فلسفة التنوير بعد ذلك بقرنين على الأقل، كما استمر الكاثوليك يعانون الاضطهاد فى مناطق الأغلبية البروتستانتية، مثلما كان البروتستانت يعانون الاضطهاد ذاته فى مناطق الأغلبية الكاثوليكية.
ورغم أن الحروب الدينية التى اختتمت بحرب الثلاثين عاما (1618 ـ 1648) حتى انعقاد معاهدة وستفاليا، قد مثلت نتيجة سلبية لحركة الإصلاح البروتستانتي أُريق فى سياقها كثير من الدماء، خصوصا لطوائف مثل الأناباتيست والهوجونت والجزويت وغيرهم، إلا أن النتائج النهائية لها كانت بالغة الإيجابية، حيث فتحت الطريق لبناء الدولة القومية، بعد أن باتت فكرة الوحدة السياسية والفكرية للعالم المسيحي مجرد ظل لماض بعيد صار يطلق عليه لقب «العصور المظلمة». نعم كانت هذه الحروب نزاعا دمويا أصاب الناس بالشك فى جدوى إيمانهم، ولكن المعاهدة الناجمة عنها هى التى وضعت الأساس القانونى للدولة القومية الحديثة، عندما اعترفت بأن كل دولة «صاحبة سيادة» علي أراضيها بحيث أصبح أي تدخل في شئونها الداخلية خرقا للقانون الدولي، ومن ثم حدثت النقلة الكبيرة على صعيد علاقة الإنسان الأوروبى بالأرض, والأرض بالسلطة والسلطة بالدولة، والتى سوف تقضى بعد قليل إلى ميلاد نظريات العقد الاجتماعي التى سعت إلى إعادة تأسيس السلطة السياسية، على قواعد أرضية لا تنبت من حق إلهى مقدس لحاكم أوحد مطلق، بل من إرادة عامة لجماعة إنسانية، تنشد تحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات، بين الحاكم والمحكوم، خصوصا لدى جون لوك، الذى ألهم البشرية نموذج الديمقراطية التمثيلية الذى لا يزال قائما وفعالا حتى اليوم.