جيل الشباب تغريه الأفعال أكثر مما تطربه الكلمات.. يعتبر أغلبه أن جيل الآباء والأجداد تربى فى ظل «عصر من الغناء»، كان للكلام والمتكلمين فيه دور البطولة. جيل الشباب الحالى لا يطيق الاستماع إلى أغنية أكثر من 5 دقائق، جَلَده على مشاهدة الدراما محدود، خصوصاً إذا كانت دراما كلامية، لا تعتمد على الأكشن أو الأفعال. خياله أكثر خصوبة من خيال الكبار، لأنه لا يتكلم كثيراً، منطقه «أرنى أفعالاً قبل أن تُسمعنى أقوالاً».
حقيقة أن جيل الآباء والأجداد تربى فى ظل عصر من الغناء، كان يعشق الاستماع لأم كلثوم لساعات مطولة، ويستمتع بذلك، ويتابع الخطب السياسية لساعات متواصلة دون أن يكل أو يمل. تطربه الكلمة حتى ولو كان لا يفهم معناها.. استمع إلى أم كلثوم وهى تغنى «سلوا كؤوس الطلا» بغض النظر عن فهمه لمعنى كلمة «الطلا» أم لا، طرب بأنغامها وهى تشدو: «ريم على القاع بين البان والعلم»، ولم يهتم بأن يبحث عن معنى «البان أو العلم»، لا خلاف على أن من بين أفراد هذا الجيل من يفهم معانى هذه الكلمات، ولكن كثيرين لا يهتمون بالفهم. عندما أصدر المفكر السعودى عبدالله القصيمى كتابه «العرب ظاهرة صوتية» فضح هذه الحالة التى سادت جيلاً بأكمله، وقد صدر الكتاب كمحاولة لتفسير هزيمة 1967.
الجيل الذى أصبح غناه وتعليمه أجنبياً وتواصله عولمياً، بات أكثر برجماتية من الأجيال التى سبقته، ورغم ما أورثته حالة الذوبان فى روافد الثقافة المتغربة من صفات غير حميدة أدت إلى تراجع الكثير من القيم المحلية النبيلة التى تميز ثقافتنا المصرية، إلا أنها جعلته أكثر ولعاً بكل ما هو عملى حتى يتسق مع توجهاته البرجماتية التى تعلمها من كلمات الأغانى التى يسمعها، وبعض المقررات التى يدرسها، وتواصله الدائم مع الثقافات المتنوعة التى يسّرتها له أدوات التكنولوجيا الحديثة وذاب فيها. جيل الشباب لا يهتم بالكلام، ولا يجيده أيضاً، لأنه أكثر عملية، إنه يريد أفعالاً على الأرض، لا تهمه المعانى المحلقة قدر ما يهمه الترجمة المادية لها.
لو أنك سألت أياً من شباب اليوم عن درجة انسجامه مع المجتمع، سيجيبك بسؤال عما أعطاه هذا المجتمع له؟ لن يركز فيما أخذه، قدر ما يركز فيما لم يقتنصه بعد. وظنى أن من حق الشباب فى مجتمع كمجتمعنا أن يأخذ الفرصة، ويمنح المساحة لننظر كيف يدير الأمور بثقافته ومنطقه المختلف عن منطق الكبار، نريد أن نقيّم تجارب مسئولين فى الثلاثينات من عمرهم على مقاعد الوزارة وداخل مجلس النواب، نريد أن نشاهد شباباً فى العشرينات يتبوأون مواقع قيادية، ويقودون مشروعات، ثم ننظر كيف يفعلون. ربما كان خيالهم الأكثر اشتعالاً، وصمتهم وصمم أذنهم عن الاستماع إلى الكلام الذى يطرب، وسيطرة قيم البرجماتية على تفكيرهم، مفيداً للواقع الذى نعيش فيه. جميل أن نتكلم، وجميل أيضاً أن نفعل ونغير ونمنح الفرص لترجمة الكلمات العظيمة إلى أعمال أكثر عظمة على الأرض.