الجمهورية
محمد عبد الحميد
لعل وعسي - "موت بالحيا"
عيناها كانتا تتجولان في المحيط الصاخب. دون هدف واضح.. آثار اجهاد بدت علي جسدها النحيل. ألجأتها رغماً عنها إلي أقرب مقعد. بأحد أركان المقهي الذي اعتدت لسنوات أن أجلس عليه.. قابضة بكلتا يديهاپ علي "كيس بلاستيك" يكشف عن رغيف خبز. وقطعة جبن صغيرة بداخله. طلبت كوب ماء من أحد العاملين بالمقهي. الذي سارع به إليها. فيما ظللت أرقبها في صمت. وعن بُعد. وهي تروي ظمأها. قبل أن تقسم رغيف الخبز إلي نصفين. وتعدل بينهما في نصيب كل منهما من قطعة الجبن الصغيرة.. وبرغم جوع فضحته طريقتها في التهام النصف الأول. وعلامات ظاهرة تنطق بعدم الاكتفاء. أعادت السيدة- التي ربما تخطت الستين بقليل- النصف الآخر إلي الكيس. ثم عاودت ربطه بإحكام.
فهمت من حركة يديها. وهي تكلم عامل المقهي أنها ترجوه أن يمهلها دقائق أخري تمنحها قدراً من الراحة قبل أن تمضي إلي حال سبيلها.. إيماءة علي وجهه أظهرت نصف ترحيب. قبل أن يعطيها ظهره. ويجيب ندائي بخطي سريعة.. سبقته ابتسامته. وهو يرفع فنجان القهوة الفارغ من أمامي. قائلاً: "أجيب الشاي الخمسينة؟¢.. رددت علي سؤاله بسؤال: "هل تعرف هذه السيدة ؟¢.. التفت وراءه. وأجاب: "أتقصد المرأة السورية ؟¢.. قلت: "أهي من سوريا ؟".. أومأ برأسه: "أيوة.. وملهاش مطرح تنام فيه. وتقريباً عايشة في الشارع¢.. طلبت منه أن يذهب إليها بكوب شاي ساخن. ويستأذنها في أن أتحدث إليها بعد أن تفرغ منه.
"كنت عايشة بسوريا في أمان. مع زوجي. في بيت مقفول علينا بابه.. ما كان إلنا أولاد. لكن كان إلنا حياة. وجيران. وأهل. وبلاد¢.. بدأت كلامها قبل أن أطلب منها. وكأن حاجتها للكلام كانت أكبر من حاجتها لمساعدة انتويتها.. تابعت. وعيونها تلمع بالدموع: "خرَّبوا بلادنا. وشرَّدونا. الله ينتقم منهم. زوجي مات بين إيديا. وبعده بأيام أخي. وزوجته. وأولاده.. وما بقي إلا أنا¢.
بابتسامة من بين دموع مسحتها بيديها همست:پابن أخي الصغير كان اسمه محمد.. واسمي منار.. كان ما لي ولاد. وكان إبني.. كانوا ينادوني أم محمد.. كان يعيش معي ومع زوجي أكتر ما يعيش مع أهله.. مات الصبي.. وهون كل يوم بتموت أم محمد لحالها".
عجزت كلمات المواساة. أن تبدل نظرة الحزن في عينيها. وهي تكمل: "أنام علي باب مسجد. وانتظر الأذان 5 مرات في اليوم. لحاجتي للحمام.. صار كل حلمي أربع حيطان. وحمام¢.!!
اعتدلت في جلستها. وهي تمسك بالكيس مغلقاً علي بقايا الخبز. والجبن. قائلة: "الناس يساعدوني بأكل. وملابس.. لكن أعيش بالشارع.. ما يعرف قيمة وطنه إلا اللاجئ.. كنا نحب سوريا.. مين قال إنا نكره بشار؟.. كان معايشنا أحلي عيشة.. وكنا بأمان.. والله ما كانت ثورة.. كانت مؤامرة. وإرهاب. وخراب".
ما عرفته من "منار" السورية. أو أم محمد -كما كانت تحب أن ينادوها- أن اللاجئين المُعدَمين يحصلون علي "كوبونات غذاء" من مفوضية اللاجئين.. وما عرفته منها أنها يصعب عليها التنقل. وفهم. ومتابعة الإجراءات. واستخراج الأوراق.. ما تعرفه "منار" أن سوريا سقطت عمداً.. وما ينبغي أن يعرفه كل منا أن الوطن "ستر¢.. وأن الوطن عُمْر.. وأن الحياة بلا وطن "موت بالحيا".
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف