الجمهورية
صلاح عطية
حول العالم - لبنان .. إلي أين..؟
أحب لبنان.. كما يحبه ملايين المصريين.. وأتابع الشأن اللبناني يوماً بيوم كأنه شأن مصري.. وقد زرت لبنان عشرات المرات.. وأعرفه شمالاً.. وجنوباً.. وبحراً.. وجبلاً.. وقد طفت بكل ركن فيه.. كما أعرف جيداً العلاقات وجذورها التاريخية العميقة التي ربطت بين مصر ولبنان.. منذ فجر التاريخ وحتي التاريخ الحديث.. وأعرف كيف امتزج الشعبان علي مدي العصور.. وأعرف كيف امتزجت الأواصر والعلاقات الثقافية والأدبية.. وأيضاً الفنية بين البلدين الشقيقين.. ولا أدعي أني أتفرد وحدي بهذا.. فكلنا في مصر يدرك عمق هذه الروابط العميقة بين البلدين.. ولهذا كله أحس بالقلق كلما جد ما يأخد بلبنان إلي مرحلة أخري من عدم الاستقرار.. أو مرحلة يهتز فيها التوازن الرقيق.. ولا أقول الهش بين قواه السياسية.. وعندما أتحدث عن هذا التوازن.. تقفز دائماً إلي ذهني صورة من يمشي علي سلك مشدود.. بينما الطرفان علي الجانبيين أسفل السلك يترقبان سقوطه في حجر أحدهما.. يميناً.. أو يساراً.. وقد ينجح جانب في الاستحواذ عليه.. ولكنه أبداً يريد أن يعود إلي طريقه المتوازن الممتد بين الجانبين..
وقد عاش لبنان شهوراً طويلة في أزمة قاسية.. منذ أنهي العماد ميشال سليمان رئاسته.. رافضاً أن تمتد ليوم واحد.. وقد كان لي شرف لقائه قبل أسابيع من انتهاء هذه الفترة.. وكان السؤال الذي يدور في الأذهان هو كيف يمكن أن تمتد رئاسته حتي يحدث التوافق بين الفرقاء.. ولكنه ـــ كما قال لي ونشرت ذلك في حينه ـــ كان رافضاً أن تمتد فترته الرئاسية لأي سبب.. وقال لي يومها إنه "يحلم بالعودة إلي بيته في جبيل ليستمتع بحياته مع أسرته".. وبعد أن انتهت هذه الفترة عاشت لبنان في شهور طويلة بلا رئيس.. وسجل البرلمان اللبناني أرقاماً قياسية لمرات عدم اكمال نصابه القانوني اللازم لانتخاب رئيس جديد.. واضطرت الأطراف في النهاية بعد تداخلات عديدة.. كان لمصر جانب منها.. إلي قبول ترشيح العماد ميشال عون رئيساً.. وهو الرئيس الذي قدمه وأصر عليه حزب الله.. وبالمناسبة معظم من تولي رئاسة لبنان في السنوات الأخيرة كانوا قادة للجيش اللبناني.. ولم يقل أحد أن لبنان "يحكمه العسكر".. !!
وقد كانت التسوية أو الصفقة التي أدت إلي انتخاب الرئيس ميشال عون بلا شك تسليماً بالرئيس الذي أصر عليه حزب الله.. ولعل هذا ما أدي بعد ذلك إلي تداعيات عديدة.. أدت إلي الاستقالة الأخيرة منذ أيام لرئيس الوزراء سعد الحريري.. فقد ظن الطرف الذي فاز مرشحه.. انه هو الفائز.. وأنه كسر إرادة الطرف الآخر.. وكان هذا مدخلاً إلي كسر التوازن اللبناني وتحقيق مكاسب له علي حساب الطرف الآخر.. وأيضاً علي حساب لبنان.. ولا نريد أن نعيد ما جاء في الاستقالة المسببة للرئيس الحريري.. ففيها إدانة كاملة لحزب الله.. وتوصيف وضعه الحالي في لبنان بأنه دولة داخل الدولة.. وهو ما لا يمكن انكاره.. ولا اخفاؤه أيضاً.. فحزب الله يملك المال والسلاح.. والسلاح والمال يتدفقان اليه من إيران عبر سوريا.. واحتمالات نزع سلاحه.. أو انضمام سلاحه إلي الجيش اللبناني دونهما "خرط القتاد" كما يقول المثل العربي القديم.. وقد نشرت جريدة الشرق الأوسط استقالة الرئيس الحريري تحت عنوان: "الحريري يغادر جمهورية حزب الله".. وهو في رأيي توصيف دقيق للوضع اللبناني.. فالحزب هو من أتي بالرئيس اللبناني بعد أن عطل لشهور طويلة انتخاب رئيس للبنان.. مصراً علي العماد ميشال عون.. ولذلك فالرئيس لا يخفي علي أحد ارتباطه بهذا الحزب.. بل هو يرفض تماماً نزع سلاح هذا الحزب.. طالما أن هناك احتلالاً إسرائيلياً لجزء من لبنان.. وهو يرد علي من يطلب هذا.. بأن هذا السلاح في أيدي أبناء الجنوب في لبنان الذين يدافعون عن أرضهم التي تحتل إسرائيل جزءاً منها..
ولا شك ان استقالة الحريري قد وضعت لبنان "فوق فوهة هذا البركان".. كما ذكرت "الجمهورية" أول أمس.. وقد جاءت هذه الاستقالة بعد أن استقبل الحريري مبعوثاً إيرانياً ثم طار بعد ذلك إلي الرياض حيث التقي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد.. وفي هذه الزيارة.. وفي زيارة سابقة قبلها بأيام. تيقن الحريري من صدق وجدية المؤامرة التي ترتب لاغتياله.. كما أغتيل والده الشهيد رفيق الحريري.. وقد ذكر الحريري في استقالته ان لبنان تعيش نفس الأجواء التي سبقت اغتيال الشهيد الحريري.. ومن العجيب والغريب أيضاً أنه رغم التوصل دولياً. إلي تحديد من قتل الحريري.. وهم بكل تأكيد من حزب الله.. فإن أحداً لم يجرؤ ليس فقط علي اصدار الحكم العادل ضدهم.. بل لم يجرؤ أصلاً علي استمرار المحكمة نفسها.. ولعلنا ننتظر عشرات السنين ليتمكن القضاء من اصدار الحكم في هذه القضية.. كما رأينا منذ أيام صدور الحكم بإعدام قتلة الرئيس اللبناني الأسبق بشير الجميل بعد ثلاثين عاماً من اغتياله.. وقد كان من الطبيعي أن ينزعج حزب الله من استقالة الحريري.. وأن يظهر أمينه العام حسن نصر الله. لينفي من "تحت الأرض" حيث يعيش خوفاً من الاغتيال. ما جاء في رسالة استقالة الحريري.. ولكن أي منصف.. وأي متابع.. يعرف زيف ما قاله وما ادعاه نصر الله.. الذي لا يدين بالولاء إلا لإيران.. والذي يملك أيضاً بين يديه قرار الحرب وقرار السلام.. والذي أتاح الفرصة لإسرائيل عام 2006 لتدمير لبنان بقرار غير مسئول بمهاجمة إسرائيل لاستعادة أسراه..
ولا أحد يمكن أن يجزم الآن بمسار الأزمة.. ولا إلي متي ستستمر.. وكيف ستحل.. ومن سيخلف الحريري.. ولكن شبه المؤكد ان الحريري لن يعود إلي بيروت.. وربما اتجه إلي باريس حيث بيته هناك.. وليس كما يدعي نصر الله انه سيبقي سجيناً في السعودية.. وسوف تتدخل جهات عديدة لحل أو حلحلة الأزمة.. وقد كانت مصر أولها.. بحكم وجود الرئيس نبيه بري في مصر للمشاركة في منتدي شرم الشيخ.. وقد استقبله الرئيس عبدالفتاح السيسي.. ليتباحثا الموقف بعد الاستقالة.. كما ان الرئيس اللبناني ميشال عون قد اتصل به أيضاً ليتباحث معه في الأزمة.. والجميع يدرك ان مصر يمكن أن تقدم شيئاً في هذا الإطار.. ولا شك ان الاتصالات ستتواصل.. ولكن الوصول إلي حل لن يكون سهلاً.. والرئيس عون ينتظر عودة الحريري إلي بيروت وهو أمر مشكوك فيه تماماً.. ومن هنا فالغيوم التي تلبدت في سماء لبنان هي غيوم شتاء.. يبدو انها ستستمر طويلاً.. ويبقي أن نقول ان الأزمة الوليدة.. تكاد تعيد لبنان مرة أخري إلي نقطة الصفر.. كما ان الأزمة تهدد الانتعاش الاقتصادي وتدفق المستثمرين إلي لبنان.. وكما قال ميشال فرعون وزير الدولة اللبناني لشئون التخطيط. فإن الاستقالة "بددت كل الأجواء الإيجابية. ومحاولة وضع لبنان علي خريطة الاستثمارات".. كما أن الحظر علي دخول أبناء الخليج إلي لبنان يبدو انه مرشح للعودة مرة أخري.. بعد أن بدأ ذلك باستدعاء البحرين لمواطنيها من لبنان.. وهو ما سيؤثر علي قطاع السياحة اللبناني تأثيراً شديداً.. في بلد يعتمد علي موارده من السياحة اعتماداً كبيراً..
وفي كل الأحوال.. فإن حبنا للبنان يدعونا إلي تأمل في حل سريع للأزمة.. وفي التزام كل الأطراف بمصلحة لبنان أولاً.. وهو ما يبدو مستبعداً تماماً مع حزب الله.. الذي يتلقي تعليماته من إيران للأسف الشديد.. والتي تخوض معاركها وتصفي حساباتها.. خارج أراضيها في سوريا ولبنان والعراق واليمن.. !!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف