عبد المنعم سعيد
وعد بلفور والمصالحة الفلسطينية
هناك فى العالم كله بين مراكز البحوث والمؤسسات مؤتمرات وندوات حول أربعة أحداث مهمة: مرور مائة عام على وعد بلفور، مرور مائة عام ـ منذ عام ـ على اتفاقية سايكس بيكو، سبعون عاما على قرار التقسيم، وخمسين عاما على حرب يونيو. هى كلها أربع علامات على طريق الصراع العربى الإسرائيلى تشهد بحالة فريدة من الإخفاق العربى والفلسطينى أولا فى منع قيام الدولة العبرية، وثانيا منع استمرارها قوية وقادرة على استيعاب مهاجرين من كل أنحاء العالم، والصعود فى سلم الدول المتقدمة فى الدنيا، وثالثا فى منعها من التمدد لكى تتحول من دولة صغيرة لا تتعدى مساحتها 20 ألف كيلومتر مربع، ولا تحتوى إلا على ثلاثة ملايين نسمة من اليهود إلى أكثر من ضعف هذا العدد من السكان، وعلى مساحة وصلت إلى قرابة 90 ألف كيلومتر مربع. النصر العربى الكبير كان فى استعادة الأراضى المصرية والأردنية المحتلة، ولا تزال فلسطين والمرتفعات السورية تحت الاحتلال، أما مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية فهى تحت السيطرة والهيمنة الإسرائيلية. لم يكن وعد بلفور واحدا فقط من الألعاب البريطانية خلال الحرب العالمية الأولي، فقد سبقته لعبة أخرى هى الوعد الذى قطعته بريطانيا فى 1915 للأمير الحسين بن على لإقامة مملكة عربية موحدة فى منطقة الهلال الخصيب، ولحقها اتفاق سايكس بيكو الذى كان لعبة بريطانية فرنسية، وما بين ذلك وبعده كانت هناك وعود للأرمن واليونانيين بقطع مختلفة القياس من لحم الإمبراطورية العثمانية. ومن بين كل هذه الأحداث والوعود فإن تريزا ماى رئيسة الوزراء البريطانية احتفلت احتفالا عظيما بوعد بلفور ليس لأنها «صهيونية» أو أنها عميلة للوبى اليهودى من نوع و آخر، ولكنها، ومن وجهة نظرها ونظر المصالح البريطانية وجدت فى المشروع الصهيونى ما يستحق المراهنة. أخذ العرب وعدهم، ولكنهم لم يقيموا عروة وثقى بينهم، ولا جهزوا انفسهم كيف ستكون المملكة العربية الموحدة، ولاخطوا طريقهم إلى العالم الحديث الذى كان على وشك الدخول عليهم. وبعد قرن من الوعد الذى «منحه من لا يملك لمن لا يستحق» على حد تعبير عبد الناصر فى رسالته إلى كيندى فى مطلع الستينيات، فإنه بغض النظر عن الواعد والموعود كان حقيقة قائمة على الأرض. لم يكن وعد بلفور سرا على أحد، فقد جرى تبنيه من قبل عصبة الأمم، ولكن الصهاينة أخذوه مأخذ الجد وعرفوا منذ البداية أن الوعود لا تنفذ نفسها، فانشغلوا بتذليل موجات الهجرة إلى فلسطين، وإقامة المؤسسات على الأرض من أول الجامعة العبرية ومركز التخنيون إلى نقابات العمال إلى الأحزاب السياسية إلى البناء الاقتصادى والتكنولوجي، وعاما بعد عام جرى بناء الدولة قبل أن تقوم. الفلسطينيون على الجانب جرت المائة عام عليهم فى الشقاق والصراع والمنافسة غير الصحية. فى البداية كانت بين العائلات (النشاشيبى والحسيني) وكانت كلها عمن هم الأكثر وطنية ودفاعا عن فلسطين. وفى وقت من الأوقات كان الصراع بين فتح من ناحية وجبهات مختلفة النوع بين الناصرية والماركسية من الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية، حتى استقر الحال لكى يكون الانقسام بين فتح وحماس الذى قسم الكيان الفلسطينى خلال السنوات العشر الأخيرة إلى كيانين منفصلين. قبل ذلك كان الانقسام بين فتح التى تحاول استعادة الممكن من أرض فلسطين لإقامة دولة فلسطينية مستقلة عليها، بينما تحاول حماس بكل الطرق إفساد ما تفعله فتح بالقيام بعمليات عسكرية وانتحارية أحيانا لكى تنهار المفاوضات، ويتوقف الانسحاب الإسرائيلى من الأراضى الفلسطينية. وبعد مائة عام من الوعد و سبعون عاما من قرار التقسيم وخمسين عاما من احتلال إسرائيل لكل الأرض الفلسطينية فإن دولة فلسطينية لم تقم بعد. الغريب أن عمليات المصالحة ولم الشمل الفلسطينى تلقى مقاومة كبيرة من عناصر فلسطينية مختلفة. المصالحة الأخيرة اجتهدت مصر فيها ونجحت فى النهاية فى دفع الجانبين فى فتح وحماس للجلوس معا والعمل على عودة الأوضاع إلى ماكانت عليه قبل انفصال غزة تحت العباءة الحمساوية. وخطوة بعد خطوة فإن الأوضاع الفلسطينية بدأت فى أن تكون واعدة بانتخابات قادمة، وصيغة يمكن من خلالها استئناف المفاوضات مع إسرائيل، وباختصار إقامة حقائق، فلسطينية هذه المرة، على الأرض. إسرائيل من جانبها وإن لم ترحب بالمصالحة فإنها لم تعوقها، وعلى العكس فإنها قدمت بعض التسهيلات من بينها تأمين نقل 350 من الحكومة الفلسطينية إلى غزة، وعقد وزير المالية الإسرائيلى كهلون لقاء مع رئيس الوزراء الفلسطينى رامى الحمدالله لكى يتم التعامل مع العلاقات الاقتصادية المتشابكة بين الفلسطينيين والإسرائيليين (هناك 150 ألف فلسطينى يدخلون إسرائيل يوميا للعمل، والعملة الإسرائيلية الشيكل هى العملة المستخدمة فى إسرائيل والأراضى الفلسطينية، وتقوم إسرائيل بجمع الضرائب والجمارك للسلطة الوطنية الفلسطينية، ويعالج أبناء القيادات الفلسطينية بمن فيهم حماس فى المستشفيات الإسرائيلية، ويذهب الإسرائيليون لعلاح أسنانهم لدى أطباء فلسطينيين فى الضفة، كما يفعلون ذلك أيضا لإصلاح سياراتهم فيها نظرا لفارق الأسعار الكبير والتى باختصار تشكل سوقا اقتصادية واحدة.
جبهة الجهاد الإسلامى أبت إلا أن تضرب «كرسى فى الكلوب» بنفس طريقة حماس من قبل عندما حاولت عناصر منها التسلل إلى إسرائيل من خلال أنفاق اكتشفتها إسرائيل وكانت النتيجة وفاة سبعة فلسطينيين. فى الماضى كانت هذه الخطوة تعنى غزوا للقطاع، أو غارات مستمرة عليه، ولكن إسرائيل، كانت حريصة على إبلاغ القيادات الفلسطينية ودول عديدة فى المنطقة أن ما فعلته لن يكون مقدمة لاغتيال قادة الجهاد الإسلامي، والمعنى هنا أنها لا تريد التصعيد لأنها سوف تنتظر نتيجة الجهود المصرية التى تبذل الغالى والنفيس من أجل إنقاذ قطاع غزة، وعودة مفاوضات السلام إلى مسارها الصحيح. مثل ذلك ليس مستحيلا، ولكن المستحيل لا يتحقق دون تعاون الأطراف الفلسطينية المختلفة فى إقامة دولة فلسطينية حقيقية يكون لها كامل السيطرة على السلاح الفلسطينى واستخداماته. من يريد إقامة حزب الله أو أحزاب لله فى فلسطين يأخذ القضية الفلسطينية إلى ما كانت عليه طوال قرن مضي، أى إلى إخفاق آخر!.