الأهرام
د. فوزى فهمى
المفكر الفارس!
عندما يختزل العقل إلى التقنية، ويختزل الواقع إلى السيطرة، ترى هل ليس أمام الذات الإنسانية سوى أن تتماثل مع قاهرها خضوعًا؟ لا شك أن الذات عندئذ تصبح أسيرة متاهات الحجب، وشراك الخداع، حيلاً، وغشًا، وتهويًما، وإيهامًا، وتلك خسارات لا محدودة، يغذيها اليأس والقنوط والعنت، لكن رهان الخلاص من الأسر يتبدى في تجاوز سكون اللامبالاة، و«الانهمام بالذات والعالم» تواصلاً، وفهمًا، وتحليلاً، وذلك ما يحقق للفرد قوامًا إيجابيًا حقوقيًا، يجسد استقلاليته كفرد، التي تتأتى له عبر انفلاته من التشكيل الانغلاقي الذي يحاصره؛ إذ التقدم لا يفهم دون تجاوز واتصال، ولا شك أن الانفلات من الوضع الإطلاقي يصل الذات بمصداقية الحقيقة، التي تتجلى في أن تمارس الذات ذاتها لتحقق حريتها، بما تمتلكه من الوعي والإرادة والاقتدار. أن ما ينتجه الإنسان في انهمامه بذاته والعالم، يستهدف التحرر من استبداد النماذج المسيطرة، بتأهيل قدراته لممارسة الوجود المنفتح في مجتمع غير قمعي، بوصفه «الإنسان الواعي والمسئول والمالك لزمام أمره، والفاعل في تاريخه - بفعل تضافر إرادته، أو الإمكانات التي توفرها علومه- إنسان الطموح والحقوق والواجبات» بمعنى أنه ليس إنسان الأنانية والانعزال والتسلط، وسلب حرية الآخرين والتخلي عن مسئولياته؛ بل هو إنسان شجاعة الاقتدار على قول الحقيقة وأيضًا مواجهتها، إنسان استشعار جمالية الوجود التي تتبدى في مطابقة الأقوال للأفعال، صحيح أن الفيلسوف سقراط، مؤسس العقلانية، وفلسفة الأخلاق، وسيد الانهمام بالذات يقول: «اعرف نفسك بنفسك، فالذات ليست جوهرًا يجب العثور عليه» والصحيح كذلك أن ثمة اختلافًا بين الانهمام بالذات الذي يتحقق عن طريق معرفة الذات بنفسها لنفسها، أي اكتشاف الفرد لطريقة تعامله مع إنسانه، وهو ما يختلف تمامًا عن أن تعرف الذات نفسها عن طريق الآخر، سواء كان استشعارًا أو تساؤلاً،

وذلك ما لا يعد انهمامًا ذاتيًا، وأيضًا هناك فارق يميز بين الذات والذاتوية، إذ الذات تعني «الأنا» أما الذاتوية فهي تعني نزعة تضخيم الذات بوصفها مكمن قتل تلك الذات. إن الانهمام بالذات هو الانهمام بالكينونة الخاصة، وانهمام بالآخرين في الآن نفسه؛ لذا فإن مفهوم الانهمام الذاتي يختلف عن الاستغراق في الهموم اليومية؛ إذ هو يشبه باللحظة النقدية، التي تتبدى كلحظة توقف ووعي تصوب نحو الأخلاق والسياسة والمعتقدات، وتستهدف ضخ منبهات مدروسة لتلك القضايا كشفًا للحقائق، وتحريكًا لآلية التنبيه والاستجابة. لا شك أن فرسان مفهوم «الانهمام بالذات والعالم» هم الذين يبشرون بالتقدم في مجتمعاتهم؛ بل خارجها، وهم أيضًا بشجاعتهم يواجهون الذين يداهمونهم باستراتيجية مضادة للتقدم، تدفع الناس إلى نسيان الكينونة لصالح استمرار ماضي مجتمعهم، ليظل محجوبًا عن التقدم، لكن شجاعة هؤلاء الفرسان واستمرارهم، يؤكدان إصرارهم على أن تظل تساؤلاتهم مطروحة ومفتوحة، استنفارًا لمجتمعاتهم في مواجهة حصر وحصار التقدم. ويقينًا أن المفكر د. مراد وهبة أحد هؤلاء الفرسان. نظمت وزارة الثقافة ومجلسها الأعلى تكريمًا للمفكر الفارس الدكتور مراد وهبة، بحضور الكاتب الأستاذ حلمي النمنم، وزير الثقافة ورئيس المجلس، والدكتور حاتم ربيع الأمين العام للمجلس، ولفيف من الشخصيات. صحيح أن المفكر د. مراد وهبة هو فارس لم يتورط يومًا في أي تواطؤات، ولأنه يتمتع ببداهة فورية؛ لذا عاش ويعيش حياته صلبًا متأملاً، طارحًا بوصفه مفكرًا تساؤلاته، التي تتبدى منارة دالة تفتح الطريق أمام المجتمع، وصحيح أيضًا أنه قد صادفته في مسيرته عقبات وعوائق، لكن الصحيح كذلك أنه لم يعرف يومًا في مواجهتها الطواعية السلبية، ولم تسقط يومًا خطوط دفاعه عن العقل والحقيقة والتقدم. تصدى للقولبة التي ترفض إعمال العقل، وأيضًا لكل من يبطل جدارة العقل سعيًا لتدمير غيره. وقد أصدر المفكر الفارس د. مراد وهبة عام 1990 كتابًا عن «الدين والاقتصاد» تسجيلاً لندوة أقامها عام 1985، ويضم الكتاب تسعة أبحاث لنخبة من المفكرين المصريين البارزين، بالإضافة إلى مقدمة لدراسة شافية، تفصح عن تشخيصه لتلك القوى التي تقلص حتمية الاختيارات، وأقطاب هذه القوى التي تتحكم في الأحداث الحاضرة والمستجدة، وتحديدًا في المجتمع المصري والعربي عامة، وتتجلى هذه الظاهرة في قوى ثنائية البعد، يتبدى أحدهما في البعد الاقتصادي، الذي يتجسد في تسيد الرأسمالية الطفيلية التي تستلب المجتمعات استهلاكيًا، بوصف الاستهلاك وحشًا اقتصاديًا بحتًا، يمارس القطيعة التامة مع منظومة القيم، إذ يسيطر تجار الخلسة والوسطاء على أسواقها، أما البعد الثاني فيتبدى بعدًا فكريًا، يحظر ما يطلق عليه الفكر المستورد، بدعوى الحفاظ على القيم والتقاليد وكل إرث الأقدمين، وكأن لا شيء يمضي؛ بل لا بد أن يبقى وهو ما يعني أن محصلة البعدين تستهدف تدمير حضارة الإنسان. ثم يشير أيضًا إلى بحث شارك به عام 1977، في ندوة عقدها مركز بحوث الشرق الأوسط عن الصراع العربي الإسرائيلي، حيث حدد فيها تيارات ثلاثة، بدأت تشق الوطن العربي، وحدد أيضًا مغزى كل منها، أولها التيار التتاري الذي ينبذ الحضارة، ويشكك في قدرة العقل، ويحقر من شأن العلم، ويستهدف مغزى هذا التيار تدعيم التخلف الحضاري للعالم العربي، والتيار الثاني هو ما يطلق عليه التيار اللاثوري، الذي يحذف ثورة يوليو بدعوى تدميرها لنفسية الإنسان العربي، ويدعو إلى استعادة ما قبل الثورة، ويكشف عن مغزى ذلك التيار، بأنه يستهدف تأكيد عبثية أي محاولة لتغيير الواقع الاجتماعيز

وأما التيار الثالث فهو التيار اللاعلماني، الذي يستهدف إسقاط دعوة منظمة التحرير الفلسطينية، الخاصة بإنشاء دولة علمانية في فلسطين، كبديل عن دولة إسرائيل العنصرية. صحيح أن هذه الدراسة امتدت لترصد ابتداءً من الثورة الإيرانية عام 1979، التيار الذي يضم تنظيرات كل من «الخميني» و «شريعاتي» و «المودودي» و «سيد قطب» متتبعًا الأصولية الدينية، مستمرًا في رصدها في أوروبا وأمريكا، وفي نهاية تلك الدراسة طرح تساؤلاً عن العلاقة بين الأصولية الدينية والعلم؟ وقد عثر على الإجابة فيما ورد في كتاب سيد قطب، المنظر الرئيسي للأصولية الإسلامية، المستقبل لهذا الدينس حيث يقول:س إن عصر الإحياء وعصر النهضة وعصر التنوير وعصر النهضة الصناعية، قد صرفت أوروبا لا عن تصورات الكنيسة وحدها؛ وإنما عن منهج الله كله، فتم الانفصال بين التصور الاعتقادي الإلهي، وبين نظام الحياة الاجتماعية، وحدث (الفصام النكد). ويعلق المفكر الفارس بقوله «معنى ذلك أن الثقافة الأوروبية ثقافة مريضة بسبب عصر التنوير والثورة الصناعية المستندة إلى العلم؟س لذا يطالب في كتابه » الأصولية وإرهابهاس الصادر2016، بتأسيس «رشدية عربية» ثم «رشدية إسلامية». أليس في ذلك مواجهة للتيارات المنغلقة، باستثمار الإمكانات المعرفية تجاهها، وإعمال العقل وتسليط نوره على ما تطرحه معطياتها، كشفًا لانغلاقها تحريرًا للمجتمع من تلك التيارات المتخطية للعقل وضرورته؟
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف