الوطن
د. محمود خليل
صاحب الجلالة
جلال «صاحب الجلالة»، هو عنوان واحدة من حكايات ملحمة «الحرافيش» للعظيم نجيب محفوظ. وتحكى قصة «فتوة» أراد الخلود، فانتهى نهاية مروعة!. جلال هو ابن «زهيرة الناجى» من زوجها الأول: «عبده الفران»، لم يكن من عائلة الناجى من العصب الأبوى، بل من واحدة من جميلات البيت الكبير. شهد «جلال» مصرع أمه «زهيرة الناجى»، فانطبعت صورة رأسها المهشم، وعلامات الذبح على نحرها فى ذاكرته منذ الطفولة، وظلت معه حتى النهاية. عندما أصبح شاباً أحب واحدة من كريمات عائلة الناجى، وهى ابنة «عزيز»، أحبته الفتاة أيضاً، ولكن عدم انتمائه إلى العائلة بالعصب الأبوى حال دون زواجهما، خصوصاً أن أمها كانت غريمة لزهيرة الناجى. وتحت ضغوط الفتاة لانت الأم، وقبلت جلالاً زوجاً لها، وقبل الزواج بأيام شاء الله أن تموت الفتاة، ليقف «جلال» أمامها متأملاً شبح الموت الذى أهلكها، وتنطبع صورتها فى ذاكرته إلى جوار صورة أمه الذبيحة.

تربت لدى جلال عقدة من الموت، أراد أن يهزمه، شاء أن يعيش شباباً كاملاً، لا يبلى ولا يشيخ، خصوصاً بعد أن أصبح فتوة الحارة، لجأ إلى أحد العطارين، فقال له أستطيع أن أقدم لك وصفات للقوة، أما الخلود وهزيمة الشيخوخة والموت فلا أستطيع، دله على يهودى، وقال له إن هذا الشخص هو الوحيد القادر على منحك ما تريد، ذهب إليه، فطلب منه اليهودى طلبات ثلاثة، الأول أن يبنى «جلال» مئذنة ضخمة، لا تباريها مئذنة أخرى فى روعتها ولا ضخامتها، على أن تكون بلا مسجد، وتوضع إلى جوار الحوض الذى تشرب منه البهائم، الطلب الثانى أن يعتزل الناس جميعاً فى حجرته لمدة عام، لا يحدّث فيها أحداً، ولا يدخل عليه أحد، يدخلون له الطعام فقط، ووعده بأن الجن سيخاويه فى نهاية المدة، الطلب الثالث أن يكتب له واحدة من أجمل العمارات التى يملكها نظير القوة غير الفانية التى سيمنحه إياها.

امتثل «جلال» للطلبات الثلاثة، وخرج إلى الناس بعد انقضاء العام، وكانت عشيقته التى تقيم معه فى قصره هى أول من استقبله. اشتكى له رجاله وحرافيش الحارة من أن فتوات الحارات الأخرى جاروا عليهم، خلال فترة اعتزاله، فما كان منه إلا أن هجم على فتوات الحوارى المجاورة جميعها وقضى عليهم. شعر «جلال» أنه يملك قوة استثنائية، وحصانة ضد الموت، مكّنته من أن يطمع فى الحياة أكثر وأكثر. قرر أن يتزوج من فتاة تنتمى إلى عائلة كبيرة عريقة. هنالك وقفت عشيقته فى طريقه، وحاولت أن تثنيه، لكنه رفض وسخر منها. وفى اليوم المحدد لإتمام الزواج، دعته العشيقة إلى الليلة الأخيرة، تبادلت معه الأنخاب، شرب وثمل، فجأة بدأ يشعر بأن جسده القوى يتخلخل، وأن ناراً تحرق جوفه، أخذ يشكو لها، نظرت إليه، ثم قالت إنه أثر السم بدأ يسرى فى عروقك ويتسكع فى دمائك، صرخ ضاحكاً: أنا ضد الموت، فقالت: ولكنك تموت الآن. أحس بأن دماءه تغلى كالمرجل، خلع ملابسه، وأخذ يصرخ طالباً الماء، ليطفئ به حر جوفه، خرج إلى الشارع، جرى الناس أمامه لما رأوه على تلك الحال. ها هو يصل أخيراً إلى الماء، لكنه ماء البهائم، لا يهم، المهم أن يطفئ النار التى تحرق جوفه، انكب على حوض البهائم يشرب ويشرب، ثم وقف ينظر حوله، وسقط، سقط البنيان الشامخ الذى صور له شيطانه أنه على كل شىء قدير.. وكان انهياره إلى جوار «الجلالة»!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف