الأخبار
محمد السيد عيد
الوصل والفصل - التفكير العقلي
يعرف المناطقة الإنسان بأنه حيوان مفكر، ويرون أن صفة التفكير هي التي تفصل الإنسان عن بقية الحيوانات. ويقول الفيلسوف الفرنسي ديكارت » العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس »‬، لكن الشيء الغريب أن عدداً كبيراً بين الناس يتنازلون عن هذه النعمة التي خص الله بها الإنسان طواعية. بل إني قرأت في تراثنا ربطاً غريباً بين استعمال العقل والكفر، مفاده أن سبب عصيان إبليس لله هو استخدامه للقياس العقلي، معتمداً في ذلك علي ما جاء في سورة الأعراف »‬ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»‬ إذ أن هذا القول هو نتيجة قياس عقلي، أساسه : أن الأعلي لا يصح أن يسجد للأدني، وأنا أعلي من آدم لأني خلقت من نار وهو خلق من طين، إذن فلا يصح أن أسجد له. وبمثل هذا القياس وغيره كثير صار استخدام العقل في عالمنا الإسلامي محفوفاً بالمخاطر.
وفي حضارتنا العربية الإسلامية اجتهادات رائعة لأنصار التفكير العقلي، وأولهم المعتزلة. وهي مدرسة كلامية، أي تشتغل بعلم الكلام، وهو علم الدفاع عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية. لكن مشكلة المعتزلة أنهم حين وصلوا للحكم في عصر المأمون قرروا فرض آرائهم علي الجميع، فخسروا بذلك خسارة فادحة، وتحولوا بعد انصراف الخلفاء عن مذهبهم إلي فرقة تعاني من الاضطهاد.
وقمة الاتجاه العقلي في الإسلام هو الفيلسوف ابن رشد، وعنه أخذ الفلاسفة الأوروبيون في بداية عصر النهضة، وكانوا يتباهون بانتمائهم إليه، ويعرفون حتي الآن في تاريخ الفلسفة بالرشديين اللاتين. وأهمية ابن رشد أنه كان يري أن الشريعة والفلسفة ينبعان من منبع واحد. وترك لنا كتابين يمثلان قمة الاتجاه العقلي في الفلسفة الإسلامية هما : فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، والكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة. ويبرهن في مقدمة فصل المقال علي أن القرآن يأمرنا بالنظر العقلي. ولذلك اختلف مع الغزالي الذي ألف كتاب تهافت الفلاسفة وكفرهم فيه في ثلاث مسائل، وألف كتاباً للرد عليه أسماه تهافت التهافت.
وحين جاء ابن تيمية ألغي دور العقل في التعامل مع النص الديني، ونادي بأن نتعامل مع النص طبقاً للمذهب الظاهري، أي أن نأخذ بظاهر النص دون محاولة لتأويله. وقد ساد هذا الاتجاه طويلاً رغم ما يترتب عليه من مشاكل، خصوصاً فيما يتعلق بالذات الإلهية، لأن القرآن يصف الله سبحانه وتعالي بأنه ليس كمثله شيء، بينما ظاهر النص فيه آيات تتحدث عن يد الله، وأنه سميع وبصير، وهذا يقتضي طبقاً للمذهب الظاهري أن لله يداً وسمعاً وبصراً.... إلخ.
ظل ابن تيمية مسيطراً لفترة طويلة، ولم يبدأ الفكر في التحرر إلا مع رجوع الشيخ رفاعة الطهطاوي من باريس، فقد وجد رفاعة أثناء دراسته في باريس أن هناك ارتباطاً بين النهضة والتفكير العقلي، ورغم أن الرجل ألف كتاباً صريحاً عن الاجتهاد إلا أن أفعاله كانت تجسيداً حقيقياً للاجتهاد الفكري بمعناه الواسع لا بمعني الاجتهاد الديني فقط، ومن ذلك ترجمته للدستور الفرنسي، وترجمته للقانون الفرنسي، وحديثه عن العلوم والفنون وتعليم المرأة وخروجها للعمل وغير ذلك من الآراء الجديدة.
بعد رفاعة جاء محمد عبده الذي استخدم المنهج العقلي في تفسير القرآن، وقدم آراء واجتهادات مبتكرة في القضايا المختلفة، مثل تفسيره للقضاء والقدر، ورأيه في فن النحت والرسم، وتربية المرأة، وغير ذلك. وارتبطت مرحلة التنوير في تاريخنا الحديث بأعلام التفكير العقلي أمثال طه حسين ولطفي السيد وعلي عبد الرازق وأحمد أمين، لكن هذه الحركة تراجعت تحت وطأة المد الديني السلفي والإخواني. فهل يمكن أن نعود لمرحلة التفكير العقلي المزدهر كما كنا في عصر التنوير ؟.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف