الأهرام
محمد ابو الفضل
السعودية الجديدة
الخطوة الكبيرة التى اتخذتها القيادة السعودية لمكافحة الفساد، تنطوى على مضامين وعبر ودروس كثيرة، أهمها أن طريق التقدم الحقيقى يبدأ من هنا، والنجاح أو الاخفاق يؤكد مدى جدية الدولة فى شق طريقها نحو المستقبل.

بصرف النظر عن أسماء الأمراء والوزراء والمسئولين ورجال الأعمال الذين وجهت لهم تهم الفساد، فالحصيلة والدلالة والرسالة التى تحملها الخطوة هى وجود روح وعزيمة وتحد ورؤية إستراتيجية تريد أن تنقل المملكة إلى مرحلة جديدة تتواءم مع الترتيبات التى جرى إعلانها بشأن الخطة المعروفة بـ 2030 وتفتح المجال لدولة عفية تمتلك مقومات الحياة على أسس تتجاوز الأنماط التقليدية، فى الحكم والإدارة والتوجهات السياسية والاقتصادية والثقافية.. مع كل الفوارق النسبية فى البيئة المحلية، غير أن الرئيس عبدالفتاح السيسى بدأ مبكرا خطوات حازمة وصارمة فى فضاء مكافحة الفساد، وجرى إعلان قضايا كثيرة وعلى مستويات مختلفة، وطالت رؤوسا كبيرة وصغيرة، ولا تزال هناك آمال كبيرة تعول على هذه الحرب بما يتماشى مع الرؤية التى تريد نقل البلاد لمرحلة حافلة بالتنمية الاقتصادية.

نجاح المشروعات التنموية الكبيرة فى مصر والسعودية له علاقة وثيقة بالحد من الفساد المستشرى منذ عقود طويلة، ودون تمييز بين أصحابه ومن يقفون خلفه، فمن أهم الخطوات اللازمة لتعزيز دولة المؤسسات، المحاسبة وتطبيق القانون والشفافية، ومنح الفرصة كاملة للشباب، كما أن مقياس التطور مرتبط بالقدرة على مواجهة الفاسدين ومعاقبتهم، وهو ما يحظى بدرجة عالية من القبول فى وجدان وعقول المواطنين.

المؤشرات الراهنة للخطوة السعودية تؤكد استحسانها لدى فئة عريضة من المواطنين، فهناك علاقة طردية بين الثقة فى القيادة، ومكافحة الفساد، ويعتبر الطرق بقوة على هذا الباب من الضمانات الضرورية لزيادة الشعبية السياسية، والتى تتضاعف كلما كانت الحرب جدية، وتتجاوز الجوانب الاستعراضية، وتطول أسماء ضخمة كان من الصعوبة التفكير فيها من قبل.

الفوارق الطبقية موجودة فى كل المجتمعات، لكن محاولات تذويبها، وتخفيف حدتها، وتخفيض مستوى تأثيراتها السلبية وكسر شوكة التطور المجتمعى الفجائى علامة أساسية على العدالة، كما أن المساواة بين المواطنين من أركان التقدم، وهى من المداخل المحورية لعلاج الكثير من الأمراض الاقتصادية والتشوهات الاجتماعية.

بالطبع هناك حسابات دقيقة تفرض اختيار التوقيت المناسب لخوض حرب واسعة ضد الفساد، وفى الحالة السعودية الملامح لم تكن خافية على المتابعين للتطورات المتسارعة، وأن ثمة طبقة سياسية تصعد ويتعزز نفوذها، ولديها رؤية تريد تطبيقها لإحداث نقلة كبيرة فى المجتمع، بدأت مع افساح المجال للشباب وتنويع مصادر الدخل ومحاربة التكلس الاجتماعى ومنح المرأة جانبا من حقوقها الغائبة، والحد من الدور الواسع والمبالغ فيه للمؤسسة الدينية.

الاستحسان الذى حظيت به هذه الخطوات شجع القيادة السعودية الجديدة على دخول المرحلة الوعرة المتعلقة بمكافحة الفساد وهدم القواعد التى يستند عليها وتغيير الصورة النمطية، وهو طريق تمشى فيه دوما الأمم الساعية للتحضر.

من المهم أن تفضح الفاسدين وتحاسبهم، لكن الأهم أن تقطع الطريق على تغولهم، وتسد المنافذ التى يتدحرج منها هؤلاء، وهى الحرب الحقيقية التى يؤدى استكمالها، والوصول لغاياتها إلى الحصول على نتائج جيدة، للنظام الحاكم والمواطنين ومستقبلهما.

علامات القبول التى صاحبت الخطوة السعودية، فى الداخل والخارج، تبدو مؤشرا كافيا على أن هذه الحرب لها أبعاد ومكونات معقدة، وتتجاوز الحدود الاقتصادية الظاهرة، لأن الفاسدين، من رجال المال والأعمال والمسئولين، فطنوا إلى أهمية امتلاك غطاء سياسى وإعلامي، لضمان الحفاظ على مصالحهم.

وهى الشبكة المريبة التى تعاظمت خلال السنوات الماضية فى السعودية، فما معنى أن يتم اتهام ثلاثة بالفساد من أكبر رجال الأعمال فى المملكة يملكون قنوات فضائية ولهم امتدادات خارجية؟ وما معنى حرص رجال أعمال على امتلاك محطات تليفزيونية أصلا؟ وما هى النتيجة التى وصلنا إليها بعد نجاح هؤلاء فى استقطاب كتيبة من الإعلاميين؟

النموذج السعودى لمكافحة الفساد، أثبت فشل فكرة الاستقواء بالخارج، وعدم صحة أن المشروعات العابرة للقارات والعلاقات التى تربط أصحابها برؤساء ومسئولين كبار فى دول أخرى تمثل عاصما لهم وأداة مضمونة لمنع الاقتراب منهم.

ما قامت به المملكة فى هذا الاتجاه يدحض هذه النوعية من الأكاذيب، ولعلها عبرة للدول التى تتردد فى الاقتراب من حملة الجنسيات الأجنبية والشخصيات التى تدعى صلتها بدوائر صنع القرار فى دول أخري، أو تزعم أن محاسبتها على ما ارتكبته فى سنوات سابقة يمكن أن تكون له تداعيات اقتصادية غامضة.

روافد البصمات القاتمة التى أحدثها التحالف الثلاثى (المال والسياسة والإعلام) فى المجتمع السعودي، تجاوزت المكاسب التى يحصل عليها أصحاب وأنصار هذا الفريق، وأرخت بظلال سيئة على كثير من طبقات المجتمع، وجلب تضخم هؤلاء مشكلات عديدة، تتحمل جزءا منها القيادة الحاكمة، لأنها الجهة المنوط بها محاسبة جميع أوجه الفساد، وإذا أرادت أن تهيئ البلاد لنقلة حضارية، وتعزيز الثقة الدولية عليها تفكيك عناصر هذا التحالف، وحلقته القوية المتمثلة فى شيوع الفساد.

اصطياد الحيتان الكبيرة للفساد يمنح الحكومة، أى حكومة، مزايا كثيرة، قوة وعزيمة وإرادة ومصداقية وشعبية، ومن يتمعن فى نسبة الرضاء التى تصاحب قضايا الفساد المتهم فيها شخضيات رفيعة، يدرك الأهمية السياسية التى تحملها عملية استمرار المطاردة، ويعى أن المكاسب التى تأتى من ورائها تفوق الخسائر التى تتكبدها حال كشف وتعرية وفضح كل حوت تضخمت ثروته على حساب المجتمع.

مكافحة الفساد فى السعودية، ليست محاولة لدغدغة مشاعر المواطنين وكسب تعاطفهم، بل هى منهج أصبح من المكونات التى تستمد منها القيادة الشابة قوتها، بالتالى فالمكافحة وتوسيع نطاق المطاردة وإعلاء قيم المحاسبة تندرج ضمن الخطة التى تعبر بها الدولة لتحقيق طموحاتها الإستراتيجية، لأنها تتماشى مع مقتضيات العصر، فلم يعد ممكنا السكوت على الصفقات والتحالفات المشبوهة، فى عالم أصبحت غالبية تفاصيله معروفة ومنشورة على مواقع التواصل الاجتماعى.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف