هذا الأسبوع وقع فى يدى الجزء الثانى من الأعمال الكاملة للروائى المصرى السكندرى مصطفى نصر, الذى صدر له أخيرا عن هيئة الكتاب, ومجموعة قصصية, حديثة الصدور أيضاً, للكاتب الشاب محمد فتحى بعنوان «لم ينجح أحد» (عن الدار المصرية اللبنانية). وبينما أنا أتصفح الكتابين صادفت فى بعض روايات نصر وفى إحدى قصص فتحى ما جعلنى أفكر فى علاقة الفن بالشارع.
والواقع أن ما فكرت فيه ليس جديداً تماماً على هذه المساحة؛ فقد سبق أن طرحت هنا منذ أسابيع قليلة أفكاراً ذات صلة بهذا الموضوع تحت عنوان «قليلاً من ملح الرومانسية», ناقشت خلالها الطبيعة المثالية الرومانتيكية للثقافة المصرية حول منتصف القرن الماضي, وعلاقة ذلك بسيطرة قيم ومُثُل الطبقة الوسطى المتعلمة وقيادتها للمجتمع فيما يمكن تسميته بمرحلة أفلام الأبيض والأسود, من ثلاثينيات إلى ستينيات القرن العشرين- (صفحة قضايا وآراء الجمعة 13 أكتوبر).
فى رواية مصطفى نصر «سينما إلدورادو» (2006) يتحدث الكاتب عن أحد الأحياء الشعبية بالإسكندرية نحو منتصف القرن العشرين, وتأثير أفلام فاتن حمامة الرومانسية على صبى فى أول المراهقة, تلميذ فى الإعدادية ينتمى للطبقة المتوسطة الصغيرة ويسكن ذلك الحي. ورغم خشونة الواقع الذى يحياه تسكره ملائكية الصورة المكبرة على شاشة السينما المتواضعة فى الحى الفقير, وترتقى فاتن بخياله ووجدانه, حتى إنه يرى جارته فى الشقة المشتركة التى تسكن حجراتها عدة أُسر, يراها صورة من فاتن, ويعشقها لأنها فى ظنه تشبه المثال الذى فتنه.
وفى رواية «ليالى غربال» (2001) - غربال اسم حى شعبى سكندرى- تذهب خشونة الواقع وتدنيه بأحد أبطال الرواية, فتى على أعتاب المراهقة اسمه عوض, تذهب به لمؤسسة أحداث بعد اتهام ظالم له بالسرقة. وفى تلك المؤسسة التى يسودها قانون الغاب, ينقذ عوض -الذى بالكاد يفك الخط- كتاب.. ترجمة عربية لرواية اسمها «التل الأخضر»..وذلك حين زاره فى المؤسسة صديق له يهوى قراءة الأدب, وترك الرواية معه لعلها تسليه فى محنته. العجيب أن سكان المؤسسة من أحداث ومشرفين وإداريين ذ وكلهم أبعد ما يكونون عن الأدب وقراءته- احترموا الكتاب وحامله, الذى انهمك فى قراءة الكتاب رغم تعثره فى القراءة, حين رآه قطعة من حطام خشبى يطفو بها وسط الموج العاصف, تقيه وتعصمه من المعاملة الوحشية فى مؤسسة الأحداث. فما معنى هذا..
معناه: أن المصريين فى الخمسينيات, حتى الجهلاء والأميون منهم, كانوا يحترمون القراءة والثقافة والتعليم؛ وحتى الأجلاف منهم كانوا يُجلون الكتاب. وكانت الصورة المكبرة على شاشة السينما تمثل لهم كائناً أعلى له صفات خارقة تجعله مثلاً يُحتذي.
هكذا صارت فاتن حمامة ملاكاً نورانياً يبعث الافتتان حتى فى قلوب سكان الواقع الخشن المتدني.
أما كائنات التليفزيون, بعد ذلك بعقود, فهى صغيرة, متاحة بلا جهد ولا سعي, ولا يمكن أن تخدع إلا عقول الأطفال. هذا ما تعكسه لنا قصة «محاولة أخيرة لقتل بوجي» لمحمد فتحي, التى تحكى مأساة طفل يشبه الدمية التليفزيونية الشهيرة «بوجي», وشجعه والده على أن يقتدى بأخلاقيات بوجى المثالية التعليمية وعلى أن «يكونه» - فكان ذلك مفتاح دماره وضياعه فى شارع يحتقر القيم والمُثُل, ولا يمثل «بوجي» المؤدب العاقل الطفل النموذجى حتى لأطفاله نموذجاً يُحتذي, بل مثاراً للسخرية يستهزيء به الأطفال قبل الكبار, ويحاول الطفل الوحيد الذى صدقه وأحب أن يكونه, يحاول عبثاً أن يتخلص منه ليستطيع العيش فى الشارع.
ولايفوتنى بعد عرض فكرتى أن أسجل إعجابى الشديد بالكاتبين, اللذين على اختلافهما يجتمعان فى غنى عمليهما والمتعة التى تفوق بكثير هذه اللمحة العابرة والتى أدعو قارئى العزيز إلى الاغتراف من نبعها.