مدحت بشاى
الست «سمارة» وجامعاتنا المصرية
من زمان والدراما المصرية مسكينة معانا، ومهما كانت حواديتها حلوة ولا ملتوتة هى متهمة.. ننجحها ونطلب إعادة عرضها بدل المرة ميت مرة ونزيد من مكاسب أصحابها، لكن لما نيجى لمجال التقييم والتنظير نقول إنها سبب كل بلاء حل بالأوطان، ومين ينسى «مدرسة المشاغبين» اللى خلت مدرسينا هدف مستباح لطلبة تم شيطنتهم لما شافوا إن مدرسهم ممكن يكون «الملوانى» اللى بيقلعوه كامل هدومه فيضحك الـ٥٠ مليون مصرى فى السبعينيات وصولًا إلى «الأسطورة» ودراما السيوف والمخدرات والضياع والصعود بعيال غير موهوبة وغير مؤهلة للنجومية شكلًا ولا موضوعًا لكراسى الصف الأول فى كثافة المشاهدة، والحجة «المشاهد عايز كده» بعد ما تم إفساد الأذواق.
وبدلًا من تكثيف الجهود لدعم إنتاج الجيد فى مواجهة خيابات دراما تحفيز احتقار دور المرأة والنيل من حقوق أصحاب القدرات الخاصة على سبيل المثال، نترك جهات الإنتاج حتى التابعة منها للدولة تقبل أى ورق من أى عابر سبيل ما دام قد أتقن فنون اللعبة وحركة الدوران الميكانيكية بين نجوم الوسط الفنى، وما دام لديه الجاهزية لتلبية طلبات نجوم الزمن الغريب وباشوات ورش الدراما العبيطة!!!.
ما علينا، وفى كل الأحوال فالدراما بكل أشكالها هى المصنف الفنى الأكثر جاذبية للمستمع والمشاهد المصرى، ففى مثل هذه الأيام عام ١٩٥٥، أى منذ أكثر من ٦٠ سنة، نُشر فى إحدى المجلات المصورة ذائعة الصيت فى زمانها تحقيق موسع عن مشاكل الجامعات المصرية، وتحت عنوان فرعى «غادروا المدرج ليسمعوا سمارة!» روى أحد أساتذة كلية الحقوق فى جامعة القاهرة أنه كان يحاضر فى أكثر من مائتين من طلبته بعد الظهر، فإذا بهم يذوبون فى غمضة عين.. ولا يبقى منهم أكثر من ثلاثين، وكانت حجة المنصرفين أنهم ذهبوا ليستمعوا إلى الحلقة الأخيرة من رواية «سمارة» فى الراديو (سمارة مسلسل إذاعى شهير بطولة الفنانة القديرة سميحة أيوب وكان يُذاع فى الخامسة والربع على البرنامج العام فى منتصف الخمسينيات من القرن الماضى).
ويستطرد الأستاذ الدكتور لمحرر المجلة صارخًا فى وجهه وهو يسأل: من المسئول عن هذا التخاذل فى روح الجامعة؟ ومجيبًا أيضًا فى ضيق وتبرم وغيظ إنها سياسة فتح الأبواب على المصراعين.. اللعنة على تلك الدراما التى أصابت روح الجامعة فى مقتل.. لم يخطر فى بالى أنا وغيرى من المهمومين برصد مظاهر تخلف الجامعات وتراجع دورها أن أصل الداء ومنذ أكثر من ٦٠ سنة يعود فى أصل المبتدأ إلى الدراما التى أخلت المدرجات من طلابها، والعجيبة أن طلاب الجامعات فى تلك الآونة وكما هو ظاهر فى الصور المصاحبة للتحقيق الصحفى كانوا يتميزون بمظهر غاية فى الاتزان والرصانة والاحترام والوقار والالتزام، حيث معظمهم يرتدى البدل الكاملة وشعورهم مصفوفة فى اتساق متزن تغطيها طبقات كثيفة من الفازلين اللامع، حتى لا يخرج بعضها فى نشاز شكلى عن أصول الانضباط قبل أن يظهر «الجيل» الملعون الذى حول رءوس شباب جامعاتنا إلى رءوس قنافذ شديدة الفوضوية للاتساق مع نظرية الست كوندى التى تبشر بفكر الفوضى الخلاقة والمجنونة.
ويضيف الأستاذ الذى استشعر الإهانة، بل المرارة من هزيمة العمل الأكاديمى والجامعى أمام سحر الدراما الملعونة قائلًا «إن الجامعة يجب أن تبقى لأمثال هؤلاء الثلاثين فقط الذين مكثوا فى أماكنهم فى المدرج ولم يذهبوا لسماع رواية (سمارة).. الجامعة يجب أن تكون للحريصين عليها.. المتفرغين لها، الذين سعوا إليها لوجه العلم، لا لوجه الشهادة ثم الوظيفة.. الجامعة يجب أن تكون للمتفوقين وحدهم، والمجانية أيضًا للمتفوقين وحدهم.. إن طالب الطب يُكلف الدولة مائة جنيه فى كل عام، لا يدفع منها غير ثلاثين (الكلام ده فى منتصف الخمسينيات من القرن الماضى)، فيجب أن يؤدى دوره ويكون حريصًا على التفوق».
أما رئيس الجامعة د. كامل مرسى فقد قال للمحرر إنه لا يجب إقفال باب المجانية أمام فريق من الطلاب قد تنزل به كوارث طارئة.. أما الدكتور الوكيل فقد ذكر أن عدم التفوق قد يكون مرجعه الفقر، ويقول أكاديمى آخر فى حسم وغطرسة إن مهمة الجامعة هى فى النهاية مهمة علمية لا خيرية.
أما الآن وفى مطلع الألفية الثالثة، وقد أصبحت مدارسنا وأيضًا جامعاتنا طاردة رغم أن الدراما لم تعد هى الأخرى جاذبة، فإن قيادات جامعاتنا وبتحفيز رائع من شياطين البيزنس قد حسموا الأمر ولم يعد فيما بينهم هذا الجدل، فقد قرروا ألا يكون فى حساباتهم هؤلاء الفقراء أو المتفوقون، وليبقى أصحاب البشرة البيضاء أولاد الناس (اللى همه) أصحاب الحق وحدهم فى التعليم لتبييض وجه الجامعات، فكان إنشاء البرامج المتميزة بعشرات الآلاف من الجنيهات والتدريس بالإنجليزية والفرنسية لمعظم التخصصات فى أقسام خاصة جدًا والتعليم المفتوح والانتساب الموجه وغيرها من أشكال ممارسة البيزنس جهارًا نهارًا فى جامعاتنا الحكومية، ولتذهب مبادئ العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص ورعاية ذوى الاحتياجات من أبناء الكادحين والفقراء فى الأرياف والعشوائيات إلى الجحيم. مهما اختلت قواعد الدراما وأصول حبكاتها الحراقة الحريفة فإن دراما جامعاتنا هى الأقوى تأثيرًا فى حياة الناس.
سامح الله الدراما والدراميين فى كل عصر وأوان بعد أن كشفوا ستر الجامعات التى يُعد حالها صورة صارخة لدراما النكد الواقعية بعد خروجها المؤكد من كل سياقات التقييم العالمية اللائقة بدولة كان لديها جامعة منذ أكثر من قرن من الزمان!!