نستكمل، اليوم، بعض معانى الآية الكريمة «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ».
ففى تفسير القرآن الكريم لابن كثير، فإننا نقرأ معنى تلك الآية الكريمة: «هذا وعد من الله تعالى لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه، بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أى: أئمة الناس، والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد. وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمنًا وحكمًا فيهم، وقد فعله تبارك وتعالى فى حياة النبى وبعد وفاته أيضًا ولهذا ثبت فى الصحيح أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: إن الله زوى لى الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها». فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله.
وعن أبى العالية فى قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصّاٰلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} قال: «كان النبى، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه بمكة نحو عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وإلى عبادته وحده لا شريك له سرًا، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال حتى أمروا بعد بالهجرة إلى المدينة، فقدموها، فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين يمسون فى السلاح، ويصبحون فى السلاح، فغبروا بذلك ما شاء الله، ثم إن رجلًا من الصحابة قال: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتى علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لن تغبروا إلا يسيرًا حتى يجلس الرجل منكم فى الملأ العظيم محتبيًا ليست فيه حديدة».
وقوله تعالى: {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} كما قال تعالى عن موسى عليه السلام إنه قال لقومه:{عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأَرْضِ}، وقوله: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَىٰ لَهُمْ}، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدى بن حاتم حين وفد عليه: أتعرف الحيرة؟ قال: لم أعرفها، ولكن قد سمعت بها. قال: فوالذى نفسى بيده ليتمنّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة، حتى تطوف بالبيت فى غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد.
قال عدى بن حاتم: «ولقد كنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، والذى نفسى بيده لتكونن الثالثة؛ لأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد قالها.. وقوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ الْفَـٰسِقُونَ} أى: فمن خرج عن طاعتى بعد ذلك، فقد خرج عن أمر ربه، وكفى بذلك ذنبًا عظيمًا».
وفى كتاب التفسير الكبير للإمام الطبرانى، فإننا نقرأ معنى قَوْله تَعَالَى: «{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}؛ نزلت هذه الآيةُ فى أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ أقَامُوا بمَكَّةَ مدَّة قبلَ الهجرةِ لا يُمكِنُهم إظهارُ الإسلامِ، ولا أذِنَ لَهم فى القتالِ، وكذلك بعدَما هاجَرُوا إلى المدينةِ وَآوَتْهُمُ الأنصارُ، رَمَتْهُمُ العربُ عن قوسٍ واحدة، وكانوا لا يَبيتُونَ إلا مع السِّلاحِ ولا يُصبحُونَ إلا فيه».
وقولهُ تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَىٰ لَهُمْ}؛ أى ولِيُوَسِّعَ لَهم البلادَ حتى يَملكُوها ويُظْهِرَ دِينَهم على جميعِ الأديانِ، {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}؛ وقولهُ تعالى: {يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا}؛ يجوزُ أن يكون فى موضعِ نصبٍ على الحال؛ أى لأَفْعَلَنَّ ذلك فى حالِ عِبَادتِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}». أما فى تفسير الجلالين فإننا نقرأ معنى قوله تعالى: «{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأَرْضِ} بدلًا عن الكفار {كَمَا اسْتَخْلَفَ} بالبناء للفاعل والمفعول {الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من بنى إسرائيل بدلًا عن الجبابرة {وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَىٰ لَهُمْ} وهو الإِسلام بأن يظهره على جميع الأديان ويوسع لهم فى البلاد، فيملكونها {وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ} بالتخفيف والتشديد {مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ} من الكفار {أَمْنًا} وقد أنجز الله وعده لهم بما ذكر وأثنى عليهم بقوله: {يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا}، هو مستأنف فى حكم التعليل {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ} الإِنعام منهم به {فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفاَٰسِقُونَ}. وأوّل من كفر به قتَلة عثمان، رضى الله عنه، فصاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخوانًا». وللحديث صلة. وبالله التوفيق.