د. محمد عفيفى
البابا شنودة.. تاريخ الوطن والكنيسة «1-2»
يعتبر تاريخ البابا شنودة الثالث خير مثال على مدى ارتباط تاريخ الكنيسة بتاريخ الوطن. ولا غرابة فى ذلك، فالكنيسة القبطية هى الكنيسة المصرية الوطنية التى صمدت على مر الزمان وعبر كل المحن والأزمات التى مرت بها مصر منذ تأسيس الكنيسة على يد مرقس الرسول وحتى الآن.
من هنا فعلى المؤرخ أن يراعى تناول تاريخ البابا شنودة فى إطار التحولات المهمة والعلاقة التبادلية بين الكنيسة والوطن. إن المحاولة الأولية للاقتراب من نموذج البابا شنودة لا بد أن تنطلق من تاريخ ميلاد البابا شنودة وسنوات التكوين اللاحقة عليه؛ إذ ولد «نظير جيد» (البابا شنودة) فى عام ١٩٢٣، أى فى أعقاب ثورة ١٩١٩ وصعود نموذج الوحدة الوطنية الذى تجسد فى أروع صوره فى أثناء ثورة ١٩١٩ وما بعدها. ولهذا وعلى مر سنين حياة البابا شنودة سنجده دائمًا وفيًا لهذا العصر (عصر الوحدة الوطنية)، ولهذا الميراث (ميراث الفترة الليبرالية).
وكان «نظير جيد» مثله مثل أبناء جيله مسلمين وأقباطًا، مولعين بحزب الوفد الذى أصبح بعد ثورة ١٩١٩ وبحق عباءة الأمة المصرية. لكن هذا الإعجاب الشديد سيهتز بشدة مع التحولات فى قيادات حزب الوفد وتوجهاته الأرستقراطية الجديدة مع نهايات الحرب العالمية الثانية، حيث اهتزت ثقة الطبقة الوسطى الصغيرة فى مصر فى حزبها الأثير -حزب الوفد- الذى بدأ فى التخلى عن كثير من أفكار سعد زغلول. ويمكننا أن نلحظ ذلك فى الزلزال الرهيب الذى دبّ فى وجدان الشاب «نظير جيد» بعد خروج مكرم عبيد من الوفد، وتأسيسه لحزب جديد هو حزب «الكتلة الوفدية». إذ سيفضل «نظير جيد» الالتحاق بالكتلة الوفدية وزعيمها مكرم عبيد. ويُسجِّل «نظير جيد» فى ذكرياته لقاءاته بمكرم عبيد، والأشعار التى نظمها فى مدح مكرم عبيد والوقوف بجانبه، وكيف نعته مكرم عبيد بـ«شاعر الكتلة».
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية فى عام ١٩٤٥ دخل العالم بأكمله فى مرحلة جديدة، ودخلت مصر أيضًا فى متغيرات عديدة؛ إذ بدأ الوهن يدب فى معظم الأحزاب الكبيرة فى مصر آنذاك، وبدا للجميع أن هناك جيلًا جديدًا من الشباب قد برز على الساحة يختلف بشكل كبير مع جيل الآباء ومع المؤسسات الحزبية القديمة، ففى تلك الأثناء كان الصعود الباهر لجماعة الإخوان المسلمين، بحيث أصبحت تمثل منافسًا مهمًا لحزب الوفد، وحتى لبقية الأحزاب الأخرى، كما تصاعدت موجة الفاشية فى مصر لا سيما على يد «مصر الفتاة» وزعيمها أحمد حسين. وفى تلك الأثناء وحتى فى داخل الجيش المصرى المؤسسة العسكرية النظامية العتيدة ـ بدأ شباب الضباط فى تشكيل تنظيمات سرية كان أهمها وأخطرها بعد ذلك تنظيم الضباط الأحرار الذى قام بثورة ١٩٥٢.
وفى خضم هذه المتغيرات، ومع اهتزاز علاقة الأقباط بالوفد، ومع وجود مشاكل داخلية فى الكنيسة القبطية، سيظهر جيل جديد من الشباب القبطى يرى أنه بات من الصعب الاندماج فى هموم الوطن، نظرًا لحالة الاستقطاب الشديدة التى عرفتها مصر منذ عام ١٩٤٥ وحتى عام ١٩٥٢. ورأى هذا الشباب أنه من الضرورى إصلاح البيت الداخلى «الكنيسة»، قبل النظر فى هموم البيت الكبير «الوطن». وفى حى شبرا وفى إطار مجموعة مدارس الأحد، سيلتقى زمرة من خيرة الشباب القبطى عقدوا عزمهم على إصلاح الكنيسة كمدخل أولى لإصلاح الوطن؛ كان على رأس هؤلاء «نظير جيد» ومجموعة أخرى من الشباب القبطى سيلمع بعضها بعد ذلك سواء فى المجال القبطى الإكليريكى أو حتى المجال القبطى العلمانى، ومنهم على سبيل المثال «سعد عزيز» (الأنبا صمويل أسقف الخدمات) ود. سليمان نسيم أستاذ التربية القبطية بعد ذلك وغيرهم كثيرون.
وسينظر هؤلاء إلى أحوال الكنيسة وتدهور أحوال الرهبنة القبطية، وسينذر بعضهم نفسه لمشروع الإصلاح القبطى. من هنا ستعرف الكنيسة والأديرة القبطية ظاهرة جديدة ومهمة هى ظاهرة الرهبان الجامعيين؛ إذ سيدخل الكثير من الشباب القبطى الجامعى إلى سلك الرهبنة ليُحدِث ثورة جديدة فى أروقة الكنيسة وإصلاح الحياة الديرية. وكما خرج الضباط الأحرار فى مطلع الخمسينيات من ثكناتهم العسكرية لإصلاح أحوال الوطن، سيدخل هؤلاء الشباب القبطى فى مطلع الخمسينيات أيضًا إلى الأديرة لإصلاح أحوال الكنيسة. لقد كانت مصر وبحق على موعد مع القدر مع جيل جديد من الشباب عقد العزم على إنهاء نظام وبداية نظام جديد، ولعل خير دليل على ذلك كلمة (التطهير) التى أصبحت الكلمة السحرية فى أروقة الإدارة والحكم فى مصر بعد ثورة ١٩٥٢ والتى كانت أيضًا هى الشعار الذى رفعه الشباب القبطى من أجل (تطهير) الكنيسة.
وشاء القدر أن يحتضن البابا كيرلس السادس هذا الجيل من الرهبان الجامعيين، بل ويقوم برسمهم كأساقفة ومطارنة، لتبدأ الكنيسة عملية إصلاح وتجديد دماء مثلما كان حال سنوات الخمسينيات والستينيات فى مصر آنذاك.