الدستور
ماجد حبته
لكن «ما» هو الرمز؟!
لو أخذت مشروع القانون المقدَّم إلى مجلس النواب على محمل الجد، لحلّت «مَنْ» مكان «ما» فى العنوان.. قواعد اللغة توجب استعمال «مَنْ» للعاقل و«ما» لغير العاقل وصفاته، ولا أعتقد أن دلالات كلمة «رمز» تطورت وصارت صفة للعقلاء أو الأشخاص، إلا على سبيل الدعابة أو التهريج، كأن يناديك أحدهم بـ«يا رمز»، كما كان يفعل زميلنا أحمد جبيلى، رحمه الله، أو كما كان «شريف خيرى رمز الصمود» فى فيلم «السفارة فى العمارة»، قبل أن يصبح «الخاين العميل» بعد لقطات!.
الأستاذ النائب، صاحب مشروع القانون، تسرَّع وأرسله إلى الصحف والمواقع الإلكترونية التى تسرعت هى الأخرى ونشرته كما وصلها واتفقت كلها على عدم تصحيح أخطائه: «يقصد بالرموز والشخصيات التاريخية الواردة فى الكتب والتى تكون جزءًا من تاريخ الدولة وتشكل الوثائق الرسمية للدولة، وذلك وفقًا لما اللائحة التنفيذية له»، وهذا هو نص المادة الثانية، كما قرأته، بالحرف، فى صحف ومواقع عديدة، زعم بعضها أنه «ينفرد» بنشر مشروع قانون «تجريم إهانة الرموز والشخصيات التاريخية».
لك عذرك إن قرأت المادة ١٠ مرات ولم تفهم شيئًا، ولك ١٠٠ جنيه لو فسرت عبارة «وفقًا لما اللائحة التنفيذية له»! وأتصور أننا يمكن فك اللغز، باستنتاج سقوط كلمات «يحدده مفهوم القانون و..»، لتكون العبارة «وفقًا لما يحدده مفهوم القانون واللائحة التنفيذية له»، قياسًا على نص المادة الأولى: «يحظر التعرض بالإهانة لأى من الرموز والشخصيات التاريخية، وذلك وفقًا لما يحدده مفهوم القانون واللائحة التنفيذية له». ولأننى لم أتمكن من الوصول إلى «اللائحة التنفيذية للقانون»، تعاملت مع نصّه لغويًا، أملًا فى الوصول إلى مفهومه فلم أقطع نصف متر!.
الرمز فى اللغة هو علامة تَدل على معنى له وجود قائم بذاته، تمثِّله وتحل محلَّه، وقد يُستخدم بقصد الإيجاز، كما فى الرُّموز الكيميائية والحسابيّة والهندسيّة والفيزيائيّة. والرمز أيضًا هو الإيماء والإشُارة: «قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا». والرمز، كذلك، آلية إبداعية، ومكوّن فنى لجمالية النَّص الشِّعرى. وقبل كل شىء، هو المعنى الخفى أو الإيحاء، وعلم الرموز هو دراسة الرموز أو الرمزيّة وتفسيرها، ويقال فكَّ رموزه أى تفهّم معانيه ودلالاته.
هناك، إذن، طرف آخر للرمز، هو «المرموز إليه»، والطرفان لا يؤديان الغرض منهما، أو المفروض عليهما، ما لم يكشفا عن مدى التقارب بينهما. ولو أكرمك الله وقرأت كتاب نورثروب فراى «تشريح النقد» ستعرف أن «الشىء الذى تمثله الكلمة أو ترمز إليه هو مرموزها»، وللتبسيط، فإن صورة «الجمجمة»، التى توضع على المواد السامة، ستكون بلا معنى لو رآها «طفل» لا يعرف ما ترمز إليه، وبالتالى قد يمد يده فى العلبة ويأكل منها، ووقتها لن ينفعه الدكتور على عبدالعال، رئيس مجلس النواب!.
أنت نفسك، لن ينفعك الدكتور عبدالعال أو غيره، لو كتبت شيئًا عن شخصية ما، واتضح أنها موجودة فى قائمة الشخصيات التاريخية أو ضمن «الرموز» التى لم نعرف بعد المقصود بها أو ما ترمز إليه!. وقد تكتشف مثلًا أن محمد مرسى العياط «رمز»، كما سبق أنه وصفه ابننا عبدالناصر سلامة فى مقالين، بالعنوان نفسه «الرمز.. وهيبة الدولة»، نشرتهما «الأهرام»، فى‏١٣‏ يناير ٢٠١٣ و٢٨ أكتوبر ٢٠١٣، دافع فيهما (ومشيها دافع) عن «العياط» وهاجم منتقديه، وكرر فى المقالين أن «الانتقاص من شخصه‏،‏ سواء بالتصريح أو التلميح‏،‏ هو انتقاص من هيبة الدولة‏،‏ وسواء كان ذلك من خلال برامج تليفزيونية أو غيرها‏،‏ فالنتيجة واحدة»‏.‏
الموضوع ليس سهلًا، وقد تجد نفسك «لابس فى حيطة» لو وقعت تحت طائلة المادة الثالثة من مشروع القانون: «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ٣ سنوات ولا تزيد على ٥ سنوات وغرامة لا تقل عن ١٠٠ ألف جنيه ولا تزيد على ٥٠٠ ألف كل من أساء للرموز والشخصيات التاريخية، وفى حالة العودة يعاقب بالحبس بمدة لا تقل عن ٥ سنوات ولا تزيد على ٧ سنوات وغرامة لا تقل عن ٥٠٠ جنيه ولا تزيد على مليون جنيه»، ولن يعصمك من «الحيطة» كونك سياسيًا أو مثقفًا حللت ضيفًا على برنامج تليفزيونى، أو صحفيًا كتبت مقالًا فى جريدة أو بـ«تفك نفسك» بكلمتين مع أصحابك، لأن المادة الرابعة، لا تعفى من العقاب إلا «كل من تعرض للرموز التاريخية بغرض تقييم التصرفات والقرارات وذلك فى الدراسات والأبحاث العلمية».
معنى ذلك، أنك لكى تقوم بتقييم تصرفات وقرارات ما توصف بـ«الرموز التاريخية» تحتاج إلى ورقة عليها «ختم النسر» تثبت أنك تكتب دراسة أو بحثًا علميًا. ولاحظ أى «خد بالك» أن المادة الرابعة، طبقًا لإجماع الصحف، لم تفصل الرموز عن الشخصيات التاريخية، بخلاف المواد الأولى والثانية والثالثة، بما يؤكد تسرع النائب، كما قلنا فى البداية، ولاحظ أيضًا، أى «خد بالك كمان» أن «الإهانة» نسبية، ومعناها اللغوى هو الاستخفاف، الاحتقار أو الإذلال، أما المعنى القانونى فقد قضت محكمة النقض بأنها «كل قول أو فعل يحكم العرف بأن فيه ازدراءً وحطًا من الكرامة فى أعين الناس، وإن لم يشمل قذفًا أو سبًا».
.. وأخيرًا، قلبى مع اللجنة المشتركة من لجنتى الشئون الدستورية والتشريعية والإعلام والثقافة والآثار، التى أحال إليها رئيس مجلس النواب مشروع القانون. وأتصور أنها تحتاج إلى خمسين سنة، على الأقل، كى تتمكن من ضبط مصطلحات مشروع القانون، وكى تصل إلى صياغة متفقة مع الدستور ومتصالحة مع الواقع!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف