التحرير
علاء خالد
ورقة توت الذاكرة
واقعتان تتصلان بدور الذاكرة ومدى مراوغتها، هشاشتها، وحنانها أيضا؛ حدثتا لي فى الأشهر القليلة السابقة. لحظات من الزمن لم أعرف بالضبط مقدارها كنت فيها معلقا أبحث بصعوبة عن أرض أو علامة لأتمسك بها، لأتذكر بها حياتي، وسط فيضان قوي من النسيان والتيه.
ولكن بلا جدوى. كنت في هذه اللحظات أنظر لذاكرتي، ليس من داخلها، بل من خارجها وأراها ككوكب معلَّق يبتعد، ولا أعرف ماذا يحوي بداخله. الواقعة الأولى، بعد زيارتي لأحد الأقارب فى المستشفى نفسه الذي مررت فيه بتجربة مرض خطيرة. ولسوء الحظ، أثناء خروجنا من المستشفى، بعد زيارتي لقريبي؛ خرجت من الباب الخلفي الذى يعبر بغرفة أشعة الرنين المغناطيسي، ذلك النفق البارد الذى كانت روحي فيه مجمدة بلا أى استجابة للحياة منذ أشهر قليلة. عندما مررت كأن الذاكرة التقطت إنذارا ما، وأيقظت ألمًا مختزنا بالداخل لم أدركه في حينه. بعد هذه الواقعة بقليل عدت للبيت ونمت قليلا على الكنبة أمام التليفزيون، كنت أشاهد فيلما أجنبيا لا أتذكر اسمه أو تفاصيله.
أثناء مشاهدتي للفيلم، كانت ذاكرتي ترتب مشاهدها وتصنع فيلما آخر بمونتاج آخر. ففي لحظة غفوت، وصحوت بعدها بقليل، وأنا أشعر بأني فاقد لذاكرتي، وبغرابة المكان من حولي. كان الفيلم لا يزال دائرا، ولا أعرف ما هذه الصور التي تترى على شاشته المضيئة. لم يكن أمامي سوى زوجتى، فناديت عليها وطرحت أمامها برهبة وخوف ما أشعر به من تيه. كنت أشعر بأني ساقط على الحياة، على هذه الغرفة، وعلى هذه الكنبة، مقذوف من مكان آخر، ولا أعرف أين أنا بالفعل. كلما فقدت خيطا من تلك الخيوط الحياتية التى كانت تمدها لى زوجتي، وقتها، لأستعيد ذاكرتي؛ كنت أشعر بالخذلان الشديد وأزداد غرقا في النسيان، وتتسع الأرض اليباب، التى بلا ذاكرة، من حولي، ويتكثف إحساس العلوق. في تلك اللحظة كنت أبحث كالإنسان الأول عن نقطة سابقة أتيت منها، عن ورقة توت الذاكرة. كأننا في كل لحظة نسيان، أو تذكُّر، نحتاج لتذكّر نقطة سابقة ما خرجنا منها. يبدو أن هذه النقطة الغامضة أصيلة فى بناء الوجود، وقد تفرعت وأثمرت نقاطا مثيلة فى ذاكرة كل منا تشدنا دوما للماضي. لم أكن في تلك اللحظة أعرف أصلا لي، أو نقطة ماضية جئت منها سوى زوجتي، التي استخدمت خيط الزمن لتذكيري. بدأت بسرد الأحداث الأقرب زمنيا، ومنها للأبعد، لتجعلني أمسك بطرف الخيط الزمني الذى تصطف عليه مادة الذاكرة. أخذت تعدد لى ما حدث منذ قليل قبل غفوتي وماذا فعلنا، وماذا أكلنا، وماذا شربنا، ومع من تكلمنا. وسط أفعال الأكل والشرب واللقاء كان الوجود يتلخص بالنسبة لي. يبدو أن داخل الزمن يتكثف معنى وجودنا. ويبدو أيضا أن هذه السلسلة الزمنية التي تتقهقر باتجاه الماضي، سلسلة واهية ومخزن للهوية قابل للفناء والتلف في أي لحظة، مثل الخيط الرفيع الذي يسير عليه المهرج ويمكن منه أن ينزلق في أى لحظة. هل تجربة "الذاكرة" بالنسبة لنا تجربة خطرة إلى هذا الحد؟ أن نحمل قنبلة موقوتة في رأسنا، قابلة للانفجار في أى لحظة.
ربما فكرة "الذاكرة"، هذا الجوهر النادر، نفسها هي منبع الخطورة في حياتنا كوننا نراهن بكل حياتنا وذكرياتنا وهويتنا داخل مكان هش وقابل للتلف، وللأسف ليس هناك مكان أو اختيار آخر.
ربما مروري بالنفق البارد في المستشفى الذي قضيت فيه أصعب أيام حياتي جعل الذاكرة فى تلك اللحظة تستعيد مخزونها من الألم المحجوب، وهنا رن جرس الإنذار بداخلها. ومن هذه النقطة الماضية تحرك الألم من الماضي للحاضر حيث أجلس على الكنبة وأمام التليفزيون غافيا. ومن هذه النقطة أيضا تحركت الذكريات والصور والشواهد على حبل الذاكرة الرفيع حتى استعدت تذكّر مكاني الحالي وجلستي أمام الفيلم وغفوتي القليلة. الألم المخزون كان ينتقل على نفس الخيط المشدود الذي ينتقل عليه التذكر والصور واستعادة الهوية الشخصية. غياب الذاكرة، المؤقت، ربما كان من أجل حمايتي من ثقل لحظة الألم المستعادة. لقد اهتزت ذاكرتي، أثناء غفوتي، وهي تشاهد هذا الكم المستعاد من الألم، فأرادت أن تعفيني منه بسبب خوفها علي، ولأنها تحبني، فهي أصبحت أنا، وأصبحت أنا هي، فى تلك اللحظة. كأنها تبعد يدها عن مصدر اللهب خوفا من الاحتراق.
ربما تسرَّب بعض الألم داخلي، ولكن وأنا غاف أو مخدر ضد هذا الألم المستعاد. وكان هذا الفقدان المؤقت للذاكرة، صورة من صور قطع الإرسال، أو تغليف الألم المستعاد بالوجد والدوخة والغياب، كحالة الصوفي، الذى يستحضر الألم والالتحام بالذات العليا وسط الغياب، ووسط حضور لذاكرة أكبر بداخله، وبداخلي، فى تلك اللحظة. ربما. ربما أثناء النوم كان اللا شعور الجمعى بداخلى منطلقا وحرا وساحة منصوبة للصراع. وعندما استيقظت من النوم بهذه الحالة الفزعة كأني أغلق بابا للصراع غير متكافئ فى هذه اللحظة، بينى وبين كل المختزن في اللا شعور. كما للذاكرة ميراث جمعي فلنا فيها نصيب، ولها علينا حق، لذا تنبهنا، فهي هنا تقف بين الاثنين: الشخصي والجمعي لتمنع مرور ما لا نطيقه أو نستطيع له ردا. في تلك اللحظات كنت أعاصر معركة الذاكرة الأزلية، منذ آدم، مع الذنب أو الألم أو الخوف أو الحب، فخارج الذاكرة، وخارج الألم والذنب والخوف والحب والصداقة، لا وجود لنا، ولا هوية لنا، أو هو وجود أخرس، لا ماض له.
حتى الآن ما زلت أستدرج الألم المجمد، سواء فى صورة ذنب أو مرض، أو خوف من الموت، أو كل الشظايا التى تبقت من الانفجار الكبير للكون الشخصي، أو اللا شعور الجمعي، وتناثرت فى زوايا النفس، تطفو وتغطس وتغرق وتتزاحم وتتكاثر بمواقيت وعلامات. ما زالت هذه الكرات الثلجية المجمدة تسبح فى ذاكرتي. *** الواقعة الثانية حدثت منذ قليل، ولكن درجة وزمن فقداني للذاكرة كان أقل من المرة الأولى. يبدو أن الواقعة الثانية كانت تحدث على السطح الثلجي المجمد، بعكس الواقعة الأولى، ومن تحتها تماما كانت الذاكرة تجري سائلة وبكامل حيويتها. هذه المرة أيضا كنت فيها نائما واستيقظت على أنى لا أتذكر شيئا. النوم فى الحالتين مكان انتباه لفقد ما مرتبط بالهوية. ربما النوم هو المسرح الذى تتوه فيه الذاكرة الشخصية بوصفه مكان حضور الذاكرة الجماعية التي تحتل ذاكرتنا أثناء النوم. يبدو أنه أثناء النوم كان فيلم حياتي دائرا، أتفرج عليه، وعند نقطة ما مهمة، غالبا مرتبطة بالذنب أو الخوف أو الحب أو الفقد أو الموت، تقاطعت فيها ذاكرتي الحديثة مع الذاكرة الكبيرة، فرنَّ جرس الإنذار، فقمت فزعا من النوم متنبها تماما بأني لا أتذكر شيئا، كأني قمت ومعلق في معصمي تشخيص لمرضي. استخدمت زوجتي نفس الخيط الزمنى، لتردني للحظة التي افترقت فيها عن ذاكرتي. ولكن هذه المرة كان جزءا من الخيط غائبا وسارحا فى غابات النوم وبحاره وذاكرته. برغم هذا الجزء المفقود الذى يقطع سلسلة التذكر والتذكير، فإنه أفادني. فقد طفت على سطح الذاكرة الخالي ظاهريا، صورة ما. ربما الذاكرة كانت ترشحها لي لتملأ بها هذا الجزء المفقود من خيط التذكر الذى كان تمده لي زوجتي، وتجعلني أمسكه من بدايته. هذا الجزء المفقود، دلني على سبب هذا الغياب المؤقت لذاكرتي، فبمجرد تذكري لصاحب الصورة، حتى فهمت سبب هذا، فقد كان أبي.

***

تذكّري لزوجتي فى الواقعتين ربما يدل على أن الصراع كان يحدث في منطقة آمنة، فبعض عناصر عالمى الصغير الأساسية، وذاكرته، ما زالت محمية حتى الآن داخل الذاكرة الكبيرة المضطربة بالزلازل والهزات والذنب. الذاكرة الصغيرة هي الجزيرة التي ألجأ إليها وسط بحر بلا نهاية ولا ضفاف ومعرَّض كل لحظة لفيضانات من النسيان.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف