التحرير
عمرو حسنى
التصويت خارج اللجان
تاريخ تحول دول أمريكا اللاتينية من الحكم العسكرى إلى الحكم المدنى حافل بالتجارب المدهشة، التى يمكن للشعوب العربية أن تستفيد منها وتستلهمها للخروج من عنق الزجاجة الذى تنحشر فيه رقابها منذ مئات السنوات.
تلك التجارب المدهشة لم تثمر عن تحول تلك الدول إلى الحكم المدنى الديمقراطى بين عشية وضحاها، لكنها دارت فى أجواء مشحونة بإخفاقات يعقبها إحباط وتشاؤم وتضحيات تنعش الآمال، ويميزها، أول ما يميزها على الإطلاق، أن المعارضة الشعبية لديهم تؤمن بضرورة التجربة والخطأ، ولا تخشى الصدام، وتنفر من فكرة مقاطعة التصويت خشية التزوير والتقوقع السلبى فى البيوت.
تلك الفكرة المثالية الساذجة التى ينتظر أصحابها تغييرًا يهبط عليهم من السماء، وضمانات تمنح لهم من خصومهم ولا ينتزعونها من بين أنياب الديكتاتورية بالتضحيات والتنظيم والعرق! بالله عليك هل رأيت فى الدنيا، على مدار التاريخ، ديكتاتورات "كيوت" يتنازلون عن مكاسبهم ومطامعهم بشرف؟ هؤلاء لا يوجدون إلا فى خيال معارضة هشة ومريضة بداء الرومانسية السياسية.
حتى تجارب مقاطعة الانتخابات فى أمريكا اللاتينية لم تكن تدور فى سلبية بل تواكب معها نضال يفضح تزوير السلطة وجرائمها. المعارك السلمية الضارية التى خاضها لولا دى سيلفا وهوجو تشافيز ومن قبلهما سلفادور إلليندى وغيرهم كثيرون، لم يكن دخولها مرهونًا بأية ضمانات للفوز سوى رفض الكادحين للحكم اليمينى الديكتاتورى المدجج بسلاح يدفعون ثمنه من قوت أبنائهم لكى يوجهه الاستعمار المحلى إلى صدورهم لا إلى صدور أعدائهم.
الحكم العسكرى الديكتاتورى فى أمريكا اللاتينية كان يتحالف مع رجال الأعمال الفاسدين، ويستخدم الإعلاميين المرتزقة والرجعية الدينية، ويتحد مع الكنيسة تمامًا مثلما يحدث فى مجتمعاتنا العربية من تحالف بين الجنرالات وأصحاب البيزنس والشيوخ والإع - لاميين، على رأى الصديق بلال فضل. الفارق بيننا وبينهم أن أحزابهم اليسارية ونقاباتهم العمالية كانت تشبه المفارخ التى تنتج الآلاف من الكوادر المعارضة النشيطة القادرة على قيادة الجماهير، بينما تجد مثيلتها لدينا تضع العراقيل أمام كوادرها الواعدة ولا تفسح المجال إلا لتصعيد أسوأ من فيها.
عندما أسقط الجنرالات هوجو تشافيز فى فنزويلا بالتزوير أجبرهم العصيان المدنى على التحصن فى ثكناتهم وإعادة الانتخابات التى اكتسحها تشافيز وفاز فيها بمقعد الرئاسة أمام منافسه العسكرى الذى سلم نفسه هو ورفاقه لكى تحاكمهم السلطة الجديدة، بعد قيامه بمحاولة انقلاب أفشلها استمرار العصيان المدنى الذى رفع منظموه وقادته شعار "ابحثوا عن شعب غيرنا لتحكموه"! ماسح الأحذية فى صباه "لولا دى سيلفا" لم يفز هو الآخر برئاسة البرازيل فى انتخابات عام 2002 إلا بعد تجربة تزوير مورست ضده فى الانتخابات التى سبقتها، وتعلم منها حزب العمل الذى ينتمى إليه دى سيلفا كيف ينظم الجماهير لحماية الصناديق واللجان.
تجربة التصويت خارج اللجان، هكذا يطيب لى تسميتها، هى أهم وأبسط التجارب التى يجب أن تخوضها الشعوب الراغبة فى التغيير، بعد معاناتها من أنظمة حكم فشلت فى تحقيق أدنى معدلات نمو ترفع القليل من معاناتها، ولم ينجح أصحابها إلا فى تعميق جراح شعوبهم الاقتصادية بالاستدانة وإنفاق المليارات فى مشروعات دعائية فاشلة، وتحميل الفقراء فاتورة إصلاح وهمى، وإجبارهم على تقشف لا تعانى منه "مؤسسات حماية الأنظمة" التى تتضاعف رواتبها ومعاشاتها لكى تحمى رجالها من الغلاء. تلك التجربة لا تتطلب سوى أن يحمل الناس أعلامًا صغيرة بلون موحد، أو يرتدون تيشيرتات بيضاء، أو قفازات يلوحون بها خلال ذهابهم للتصويت لصالح مرشحهم المنافس الذى يأملون من خلاله فى تغيير حقيقى. تلك التجربة البسيطة يمكن أن تصنع فارقًا ضخمًا حتى لو تم إسقاط منافس النظام بالتزوير، لأنها ستتيح للعالم أن يراقب ويسجل حجم الرأى الشعبى خارج اللجان ومدى ضخامته ورفضه لنظام الحكم القائم، وهو الأمر الذى يمكن أن يفضح أى حاكم ويطعن نزاهة شرعيته فى مقتل.
تجارب المنافسات الانتخابية فى أمريكا اللاتينية كانت تدار أيضًا بحملات مرحة ناجحة تشبه مهرجانات الطريق التى تسعى لتوعية الجماهير، المهيأة طواعية للتغيير بعد طول معاناتها، بالغناء والشعارات التى تحثهم على عدم التورط فى منح الفرصة مرة أخرى لمن فشل فى اغتنامها بعد أن توفرت له كل أسباب النجاح. ظروف أمريكا اللاتينية تشبه ظروفنا كثيرًا، ودروسها يمكن أن تفيدنا بلا جدال، ومن أهمها ما سميته بدرس التصويت خارج اللجان. فقط تذكروا أن دعوات التقوقع فى البيوت والمقاطعة السلبية خشية التزوير لا تفيد إلا المزور.
لأن انتظار سقوط الضمانات من السماء سذاجة يتناسى أصحابها الحالمون أن الحقوق تنتزع ولا يتم منحها.
فى أسوأ الظروف هناك مقاطعة إيجابية تبدأ بإبطال الأصوات، ولا تنتهى بالانضمام إلى الحشود التى اختارت التصويت خارج اللجان.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف