المصريون
جمال سلطان
الحقائق والأكاذيب في أزمة الحريري ولبنان
بدون شك ، مثلت الاستقالة المفاجئة لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري ضربة سياسية عنيفة للوبي إيران في لبنان ، وخاصة حزب الله وميليشياته المسلحة التي تمثل دولة حقيقية خارج الدولة ، لها مؤسساتها ولها جيشها ولها مستشفياتها ولها شركاتها ولها سيطرتها على المنافذ البحرية ـ خاصة في الجنوب ـ والمنافذ الجوية حيث تسيطر من الناحية العملية على مطار بيروت ، وقامت ضجة شهيرة عندما أرادوا أن يغيروا مدير أمن المطار الموالي لميليشيات حزب الله ، استقالة الحريري كشفت الغطاء عن الهيمنة الإيرانية في لبنان ، ووضعت حزب الله في العراء ، بل وضعت معه كل حلفائه الحاليين بمن فيهم الرئيس ميشال عون ، الذي يدين لحزب الله بوصوله إلى كرسي الرئاسة بعد أن كان شبه مستحيل بالنسبة له ، وذلك بعد محاصصة سياسية جزئية مع تيار المستقبل برئاسة الحريري .
الحريري رفض أن يكون "طرطورا" بالمعنى الدارج في مصر ، رفض أن يكون مجرد خيال مآته أو ستار لا يملك من أمر بلده شيئا ، ولا يملك قرارا ، بينما القرار والسيطرة والإرادة لدى آخرين يديرون البلد من خلف الستار ، ثم إنه يتحمل المسئولية السياسية عن تلك القرارات التي لا يملك من أمرها شيئا بوصفه رئيس الحكومة ، وهو ما سبب له إحراجا كبيرا داخل لبنان وخارجه ، الحريري وضعهم فجأة في العراء ، وقال : شيلوا الشيلة ، وهو ما أربك الجميع واضطربوا اضطرابا واسعا ، ماذا يفعلون الآن ، وخاصة بعد أن تحدث الحريري في كلمة الاستقالة عن سيطرة أذرع إيران على المنطقة وأنه لن تستقيم الأمور إلا بقطعها ، وأنها أدوات تخريب في لبنان والعالم العربي ، وحدد حزب الله بالاسم ، وقال بوضوح أنه تلقى تهديدات بالقتل كما حدث لوالده رفيق الحريري رحمه الله ، أو وصلته معلومات مؤكدة بذلك ، وهي مسألة معتادة في لبنان ، حيث قتل عشرات السياسيين الكبار في عمليات اغتيال ، ما زالت مجهولة الفاعل حتى الآن .
حزب الله وحلفاؤه أرادوا أن يهربوا من الفضيحة بشكل مؤقت ، فحولوا القضية إلى أن الحريري لم يستقل بإرادته ، وإنما السعودية أجبرته على ذلك وأنه الآن محتجز في الرياض ، مع حملة تشهير ضد السعودية ودورها في لبنان ، وهو أمر غريب جدا ، لأن الحريري حليف تقليدي للسعودية كما كان أبوه ، ويحمل جنسيتها ، فهو ليس معارضا للسعودية مثلا أو متحديا لسياساتها لكل نتحدث عن مثل تلك الفرضيات السخيفة ، والتي لم يذكر أي دليل على الإطلاق على صحتها حتى الآن ، اللهم إلا تسريبات إعلامية محترفة ومصطنعة من مسئولي حزب الله اللبناني إلى بعض الوكالات الأجنبية ، منسوبة إلى "مصدر مسئول" ، وبطبيعة الحال حزب الله مصدر مسئول ، لأنه شريك بالفعل في الحكومة من خلال أكثر من وزير ، كما أن الرئيس عون نفسه حليفه وصوته وشريكه في رهن لبنان للنفوذ الإيراني ، ولم يجرؤ مسئول منهم على الظهور علنا أمام الإعلام ليوجه الاتهام ويتحمل مسئوليته ، لأن البديهي أن يسأله أي صحفي أمامه ، ما دليلك .
كل الكلام عن ضرورة عودة الحريري إلى لبنان لا يملك أصحابه إعطاء ضمانة بأن حياته لا تكون في خطر ، والذين يتحدثون عن سفره إلى خارج السعودية ، فرنسا مثلا ، هو تمحك غير لائق ، ولماذا لا تكون سويسرا أو أمريكا ، كلام بلا معنى ، مجرد إثارة غبار ، ووجوده في السعودية بدون شك أكثر أمنا على المستوى الشخصي ، كما أنها ليست المرة الأولى التي يقرر فيها البقاء في السعودية لسنوات بسبب المخاطر الأمنية ، ورئيس لبنان نفسه ميشال عون هرب إلى فرنسا عدة سنوات بعد خوفه من التصفية ، وحسن نصر الله رغم أنه يملك ميليشيات مسلحة وسيطرة كاملة على الأرض ، دخل في سرداب منذ اثني عشر عاما لا يخرج منه إلا لدقائق يقول كلمة أمام الشاشات ثم يختفي من جديد ، ولا يعرف أحد له مكان إقامة ولا مكتب ولا طريق ولا نشاط عام أبدا .
السعودية يمكن لبلدان أخرى أن تختلف مع بعض سياساتها ، لكن لبنان تحديدا ، مدين بالكثير للسعودية ، فاتفاق الطائف الذي رعته السعودية وحضرته كل القوى اللبنانية وكان هو المنقذ للبنان من الفناء والدمار والتشظي ، كان جهدا سعوديا وقامت السعودية بترضية أطراف كثيرة في لبنان لإنجاز الاتفاق ، وقدم الجميع بعده آيات الشكر والتقدير والتبجيل للقيادة السعودية مع التقاط الصور التذكارية ، هل نسي عون وحزب الله ، والدمار الواسع الذي لحق بجنوب لبنان بعد العدوان الإسرائيلي عليه بسبب رعونة حزب الله وسوء تقديره وافتعاله مواجهة غير متكافئة ، دفع الشعب اللبناني الفقير ثمنها ، هذا الدمار كله قامت السعودية بعلاجه على نفقتها وأعادت بناء ما دمرته الحرب ، والجيش اللبناني الآن تسليحه وتدريبه وذخيرته هي من أموال السعودية بدعم سخي وصل إلى ثلاثة مليارات دولار لدعم الدولة اللبنانية ، صحيح أن كامل المبلغ لم يصل حتى الآن ، ولكن ذلك لأسباب تعود إلى أخطاء لبنانية وليس لموقف سعودي ، فمثل هذه الدولة لا يمكن لأي قوة لبنانية أن تضع عينها في عين مسئوليها وتدعي أنها تضر بالبلاد ، فخير السعودية غامر على لبنان حكومة وشعبا ، وعشرات آلاف اللبنانيين يعملون الآن في السعودية بأمن وأمان وترحاب وكثير منهم أصحاب مشروعات تجارية كبيرة ويحولون المليارات لبيروت سنويا ، بينما إيران لا يعمل فيها لبناني واحد ، باستثناء مسلحي حزب الله الذين يتلقون التدريبات العسكرية والعقائدية .
لسنا هنا في معرض الدفاع عن السعودية أبدا ، ولا هو مقصد هذا الكلام ، وإنما أردت أن أذكر ببديهيات سياسية ، وتاريخ قريب لم يجف مداد قلمه بعد ، يريد البعض أن ينساه أو يتناساه وهو يتكلم عن أزمة لبنان الحالية ، الأزمة باختصار أن لبنان حاضنة لميليشيات عقائدية إجرامية تعمل لحساب إيران ، وتتمدد بجرائمها في المحيط العربي كله ، من سوريا للعراق للخليج لليمن ، ومع ذلك تشارك في الحكومة اللبنانية رسميا ، بينما على الأرض هي صاحبة الدولة والقرار ، والكل يعرف ذلك ، وهذا الزيف كله كان لا بد أن يكشف عنه الغطاء ، لا بد أن ينتهي ، كما أن من حق السعودية أو غيرها أن تلوح بردع تلك الميليشيات المجرمة العميلة باعتبار أنها تهدد أمنها القومي ، وأن من يرعاها أو يحتضنها أو يدافع عن أفعالها فبديهي أن يتحمل نتائج ذلك الموقف ، لأنه شريك فيه .
لعب حزب الله اللبناني لعبة الأنظمة العربية السابقة ، في مصر والعراق وسوريا ولبنان وليبيا ، بالمتاجرة بقضية فلسطين ، وقدم نفسه كمشروع مقاومة ، ثم قام بتصفية كل قوى المقاومة الوطنية في جنوب لبنان ، ليبقى السلاح له هو وحده ، وعبر هذه اللعبة تضخم وشكل جيشا حقيقيا خاصا به يعلن بوضوح أن ولاءه "للولي الفقيه" في إيران ، وأن تمويله وتسليحه بالكامل من إيران ، وفي المرة الوحيدة التي اشتبك فيها مع "إسرائيل" تسبب في دمار جنوب لبنان بكامله ، وقال حسن نصر الله بعدها أنه لو كان يعلم ذلك ما دخل في الحرب ، ومن يومها لم يطلق رصاصة واحدة تجاه "إسرائيل" وقام بدوره كخفر حدود مؤتمنين ، اثنا عشر عاما لم تطلق طلقة واحدة ، وعندما أطلق صاروخ خلسة ذات يوم بادر الحزب بسرعة إعلان عدم مسئوليته عن الصاروخ وأنه لا يعرف مصدره .
لم تعد لعبة المتاجرة بالمقاومة والممانعة تبيع هذه الأيام ، استنفذت وقتها ، والشعوب أصبحت أكثر وعيا بذلك ، وستون عاما من المتاجرة بتلك القضية من نظم عربية مختلفة ، كانت كافية لكي تكتشف الشعوب أنها كانت محض متاجرة ودجل ونصب من طغاة مستبدين وطامعين ولصوص ، لكي يتسنى لهم الانفراد بالسلطة وسحق الشعوب وكرامتها وحريتها وأبسط حقوقها الإنسانية ، لم تعد تلك التجارة قابلة للبيع من جديد ، ففاقد الشيء لا يعطيه ، والشعوب الحرة وحدها هي المؤهلة لتحرير أوطانها تحريرا حقيقيا وشاملا ، هذا ما يجب أن يستوعبه حسن نصر الله .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف