الأهرام
صلاح سالم
قبل اشتعال الحريق
تبدو منطقتنا على وشك انفجار هائل أو حريق مدمر، يشارك فيها فاعلون إقليميون وأقطاب دوليون، تحت ضغط عوامل التوتر المحيطة بها من كل حدب وصوب، انطلاقا من لبنان، تلك النقطة الرخوة التى باتت تمثل بؤرة ارتطام طائفى بين المحور الشيعى الذى تمثل إيران قاعدته وحزب الله رأس حربته، والمحور السنى الذى تسعى المملكة السعودية إلى تفعيله وقيادته فى هجوم مضاد على إيران، ولكنه لا يزال يفتقد رأس الحربة المتقدم القادر على إطلاق الرصاصة الأولى.

هذه الحرب حال وقوعها، وأيا كان أطرافها، ستدور على الأرض العربية فى القوس الممتد من بيروت وصولا إلى اليمن عبر العراق وسوريا، وجميعها دول جريحة عانت ويلات اقتتال أهلى نال من طاقاتها ومستقبل أجيالها، أما الحرب الإقليمية فسوف تفقدها ما بقى لديها من طاقات اقتصادية وبشرية، بل وقدرة على التماسك الوطنى المتصدع من الأصل. ولذا يتوجب على كل فاعل عاقل فى الإقليم أن يسعى إلى تجنب هذه الحرب التى لن تفيد سوى إسرائيل، التى يتنافس جيرانها فى خدمتها وإطلاق الرصاص على أنفسهم نيابة عنها. ثم الولايات المتحدة التى طالما خضعت سياساتها لضغوط المجمع الصناعى العسكرى، الذى لا يعنيه سوى إيجاد صراعات جديدة لاستخدام السلاح، وتوسيع نطاق الصراعات القائمة، وفى وجود رئيس على شاكلة ترامب فإنها تحولت إلى قرصان ماهر وتاجر صريح، يتواطأ فقط لإشعال الحروب إن لم يكن يخطط لها، ويدفع إلى إطلاق الرصاصة الأولى فيها، غير مكترث بلهيبها طالما استمرت بعيدة عن قلعته الحصينة. بل إن الجيران الكبار فى الإقليم مثل تركيا أو حتى إيران، المفترض أن الحرب سوف تُشن عليها أو على أذرعها فى المنطقة، سوف تخرج رابحة على الأغلب من حرب كهذه، ذلك لأن الأرض المحترقة جغرافيا عربية، وفيروس التفكيك لن يضرب سوى دول عربية، وكلما ضعف العرب تعاظمت أدوار جيرانهم، وتزايدت أعداد الجماعات العرقية والثقافية المستعدة للعب أدوار وظيفية لصالحهم، كما أن الحروب جميعها، رابحة أو خاسرة، سوف تدار بمال عربى يجرى نهبه على نحو منظم ودائم ومتسارع.

فى العالم العربى لم تعد هناك قوة فعالة، بعد تدمير سوريا والعراق وعزلة المغرب العربى سوى السعودية ومصر. أما الأولى فهى طرف فى معادلة الصراع، منذ أخذت على عاتقها مهمة تغيير قواعد اللعب فى الإقليم وحوله، فتورطت فى اليمن وسوريا وتقترب من التورط فى لبنان، لأنها تتصرف بغضب شديد واندفاع كبير لعلهما غريبان عليها، حيث تتلاقى العوامل الداخلية مع الإقليمية فى الدفع باتجاه تصعيد لا طائل منه سوى تغذية الصراعات الطائفية والقومية. أما مصر، فتعيش حالة ارتباك وتردد هائلين، تكاد تعرف حقيقة ما يجرى، وتصدر عنها إشارات تحذير ولكن بنبرة واهنة لا تكاد تصل إلى أسماع المتصارعين، كما أنها لا تطرح بديلا حقيقيا عما يجرى، كما اعتاد منها جيرانها والعالم من حولها، لعقود طوال كانت خلالها من يضع استراتيجيات الإقليم ويطارد الأعداء إلى خارجه، ويطلق صيحات الحشد التى يجتمع حولها أبناؤه، قبل أن تدخل فى رحاب الصمت منذ ربع القرن، ودائرة التيه وكهف الضعف منذ نحو العقد.

وعلى الرغم من ذلك تبقى مصر هى الطرف الأجدر بإطلاق صيحة التحذير الكبرى من هول ما يمكن أن يقع من انفجارات أو يشتعل من حرائق، فهى الدولة الأكثر حكمة والأعمق ضميرا، ولا ينقصها سوى شجاعة قول الحقيقة والدفاع عنها. ولعل الحقيقة الصلبة التى يتوجب الإفصاح عنها أن الولايات المتحدة فى ظل ترامب لن تتورع عن تصفية حساباتها مع إيران، خلاصا من تركة أوباما التصالحية بأيدى العرب وأموالهم، وأن ما قد يصدر من تصريحات تعكس تأييدا لهذا الطرف أو ذاك ليست إلا تعمية على أهدافها، فلا هى تريد ولا هى تستطيع الدخول فى حرب مع إيران لصالح العرب، بل فقط تحرض الجميع بهدف توريطهم وابتياع السلاح لهم. وأن إسرائيل لا تملك حلا لما تعتبره معضلة حزب الله، قد تستغل الظرف الإقليمى لتوجيه ضربة جديدة إليه، سوف تفضى إلى حرق لبنان من دون أن تنهى مشكلة حزب الله، الذى سيستعيد آنذاك بعضا من وهج المقاومة وبقايا الشعبية، خصوصا لو نال من إسرائيل بصواريخه الأكثر تطورا والأبعد مدى عما كان لديه إبان الحرب الأخيرة، وقد يدفعه ذلك إلى كسر التوازن الحالى والسيطرة على لبنان كله بقوة السلاح، ما يصب فى المصلحة الإيرانية.

وعلى هذا يتوجب على مصر، كفاعل كبير وشريف، ألا تكتفى بإعلان الحقيقة والتحذير من عواقب التصعيد العسكرى والانسياق إلى حرب طائفية، بل المبادرة إلى طرح البديل لكل ما يجرى، وهو الحوار العربى ـ الإيرانى المخلص والشفاف والعاجل، الذى ترتب هى له وتضع عبر الحوار مع الشركاء العرب فى الخليج أهم بنوده وأهدافه، وأن تطرح نفسها وسيطا غير محايد وهو أمر لا أظن أن إيران سوف تتردد فى قبوله، فإذا ما كانت البدايات إيجابية ومشجعة تعين على مصر صياغة صفقة شاملة بين العرب وإيران حول كل قضايا الإقليم، ذلك أن تجربة الحوار المباشر ولو مرة واحدة مع إيران أجدى من هجائها الدائم. يمكن لهذه المبادرة / الصفقة أن تنطوى على مبدءين رئيسيين: أولهما تجفيف الحضور الإيرانى الميليشياوى فى العالم العربى. وثانيهما نأى العرب بأنفسهم عن السياسات الأمريكية والإسرائيلية المعادية لإيران، خصوصا فى القضية النووية. وعلى رغم أن مخاطر الفشل لمبادرة كهذه تبقى قائمة، سواء من قبل إيران أو من السعودية، فالواجب يقضى بتقديمها، على الأقل لاختبار النوايا الغامضة، وتعرية النزعات العدوانية، وتحميل أصحابها المسئولية التاريخية عن آلام العروبة والإسلام فى مشرقنا الحضارى التعيس.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف