جمال سلطان
ليس دفاعا عن شيرين عبد الوهاب
لست من المغرمين بسماع المطربة الشابة شيرين عبد الوهاب ولا من المتحمسين لهذا الجيل بكامله ، إلا ما ندر ، ولكني وقفت مذهولا من حملة الهجوم عليها أمس واليوم ، والذي وصل إلى حد الوقاحة والألفاظ التي يحاسب عليها القانون ، إن كان للقانون سيادة في هذا البلد على أرض الواقع ، وليس في الخطب وكلام الإنشا ، واتهامها في وطنيتها وانتمائها ، ولم ينقص إلا أن يتهموها بالانضمام لجماعة الإخوان .
شيرين كانت في حفل فني في لبنان ، وطلبت منها إحداهن أن تغني أغنيتها الشهيرة "ما شربتش من نيلها" ، فحبكت معها النكتة وردت عليها بمزاح ثقيل قائلة : ها يجيلك بلهارسيا ، اشربي كذا" ، وهنا قامت الدنيا ولم تقعد في مصر ، كيف تفعل ذلك ، كيف تهين وطنها ، وكيف تتطاول على النيل وعلى رمز مصري ، ونشطت جوقة تطالب بالتحقيق معها ، وآخرون يطالبون بوقفها عن العمل ، وغيرهم يطالبون بحظر أغانيها ، وغيرهم يطالبون بإجبارها على الاعتزال ، وما زالت الحملة مستمرة ومتصاعدة حتى كتابة هذه السطور .
ما قالته هو مزاح واضح ، هكذا فهمته من طالبتها به ، وهكذا يفهمه أي سامع له ، ولكن ـ بلا شك ـ هو مزاح ثقيل ، وينبغي أن تكون الشخصية العامة ، السياسية أو الرياضية أو الفنية ، أكثر انضباطا في التعليق أو المزاح ، ولكن المزاح والنكتة ليست بعيدة عن الواقع ، وكلنا يعرف ذلك ، كما أن انتقاد مياه النيل وأحوالها ليس نقضا للوطنية ، لأي مواطن أو أي شخص ، هذا فضلا عن تضخم الذات الوطنية هنا بشكل مبالغ فيه ، وهو ما لا تجده عادة إلا في المجتمعات التي تعاني أزمات بالفعل ، وتشعر بأن "على راسها بطحة" ، ولا يمكن أن تسمع مثل هذا الضجيج في أي بلد كبير أو ناضج وطنيا ، أو لا يشعر بأي عقد نقص .
لا تحتاج إلى أكثر من ضغطة زر على أي محرك بحث عن "تلوث مياه النيل" أو "تلوث مياه الشرب في مصر" لكي تستقبل سيلا من التقارير والتصريحات والأخبار عن تلوث خطير للغاية لمياه النيل ، ومياه الشرب ، وتعداد الشكوى من ذلك ، من الاسكندرية إلى أسوان ، لا توجد محافظة مصري لم يصدر عنها شكوى من تلوث مياه الشرب ، وبعض تلك الشكاوى تتحدث عن اختلاط المياه بملوثات مصانع ما زالت تصب مخلفاتها في النيل ، وهناك تقارير تتحدث عن إصابة أعداد كبيرة من المواطنين بالفشل الكلوي أو حتى أمراض السرطان لأسباب تعود إلى تلوث المياه ، وهناك مؤتمرات مصرية عقدت وأبحاث مصرية قدمت وحوارات مصرية مع خبراء نشرت ، كلها تتعلق بتلوث مياه النيل وتلوث مياه الشرب في مصر ، وهناك سفارات كانت تعطي تنبيهات وتحذيرات لمواطنيها الزائرين لمصر من شرب مياه "الحنفية" ، فعندما يريد أحدهم محاكمة "مزاح" شيرين عبد الوهاب ، فعليه أن يضعه في هذا السياق ، وتلك الخلفية ، لا لكي نبارك ما قالته قطعا ، ولكن لكي تكون ردات الفعل عاقلة وبعيدة عن الانتفاخ الدعائي عن الوطن والوطنية والنيل والحضارة .
الطريف أن كثيرا من الشخصيات العامة التي هاجمت شيرين لا تظهر في مكاتبها ولا الحفلات العامة ولا المؤتمرات إلا وهي تشرب من "مياه معدنية" لبعض الشركات الخاصة ، وهناك لقاءات لرئيس الجمهورية توضع أمامه عبوات مياه لشركات عالمية وليست مصرية من أساسه ، ولا يوجد مسئول كبير أو صغير إلا ويشرب المياه المعدنية ولا يشرب من نيلها ، فلا داعي لهذه الضجة الخائبة والسخيفة ، وأولى بهذا الغضب أن يكون من أجل مئات الآلاف من المصريين الذين أصيبوا بالفشل الكلوي والسرطانات بسبب أنهم شربوا من نيلها بالفعل ، وتصدمك وجوه أهاليهم البائسة والحائرة والمستغيثة على أبواب المستشفيات الرديئة ، لكن مع الأسف ، الإنسان أرخص شيء في البلدان التي يتضخم فيها الحديث عن الوطنية وتحويلها إلى سوق للمزايدات الفارغة .