الأهرام
عبد المنعم سعيد
بين القديم والجديد
الأسئلة الكبرى التى تطرح فى خضم التغيرات الكبرى التى تأتى فى التاريخ تدور حول ما الذى بقى من القديم، وما الجديد الذى جد؟ والإجابة فى كل الأحوال ليست سهلة فى خضم الضوضاء والضجيج، وفى مصر فإن ما جرى فى يناير 2011 هز البلاد كلها حتى الأعماق ولكنها لم تنته بعد أحداثها الأولي، حتى أنه لم تعد فى البلاد ثورة واحدة بل ثورتان مرت على الثانية منهما أربع سنوات. وكانت المحصلة واقعة فى عهد الثورات التى جلبت دستورين ومجموعة من الإعلانات الدستورية الأخرى وبرلمانين وقائدا للمجلس العسكرى والدولة ورئيسين للجمهورية. لم يختف النظام القديم مع الحديث الكثير عن عهد جديد، بل إن أول وزارة للثورة الأولى كانت تقريبا هى تلك التى أتى بها النظام القديم لكى يحاصر الثورة. وحتى عندما عدل الفريق أحمد شفيق من وزارته فإن الأمر لم يتغير كثيرا، وبعدها جاءت وزارة عصام شرف الذى كان عضوا فى لجنة سياسات الحزب الوطني، ومعه جاءت طائفة من الوزراء لم يكونوا بارزين فى العهد القديم ولكنهم كانوا من صفوفه الثانية التى لم تكن لا من الحرس القديم ولا جماعة الحرس الجديد الإصلاحية. كانت الدنيا قد تغيرت فعلا عندما جاءت وزارة هشام قنديل لأنها عبرت عن الإخوان المسلمين الذين ثار الشعب عليهم مرة أخرى بعد عام واحد فى الحكم.هل بعد أربعة أعوام تقريبا من الثورة الثانية يمكننا الحديث عن الجديد الذى جاء، وأنه تم تجاوز القديم بمنهجه ونخبته السياسية والفكرية؟ والإجابة هى نعم، وليس تماما، وهذه خلطة ناجمة من أن تيارا إصلاحيا فى النظام القديم بدأ يجد فى النظام الجديد فرصة كبرى تجعل أفكاره حقائق على الأرض فى إنجاز مقدر وشجاعة فى التطبيق كان النظام القديم مترددا فى الإقدام عليها. الإصلاح السياسى الذى كان مفقودا تماما بدأ يأخذ شكله فى تطورين مهمين: أولهما أنه من الممكن إجراء انتخابات نزيهة فى مصر سواء كان ذلك فى الانتخابات النيابية أو الرئاسية تحت قيادة لجنة عليا للانتخابات ذات طبيعة قضائية؛ وتجرى جميعها تحت الحراسة الأمينة للقوات المسلحة. وثانيهما أن تداول السلطة بات ممكنا بعد تحديد سقف الحكم بفترتين كل منهما لا يزيد على أربع سنوات. الرئيس عبد الفتاح السيسى فى مقابلة صحفية أخيرا أكد هذه الحقيقة مؤكدا أنه لا يؤيد حدوث تعديلات دستورية وأنه سوف يطبق الدستور كما هو احتراما للإرادة الشعبية. هنا فإن الرئيس يضع سابقة تأسيسية كانت مفقودة فى التاريخ المصرى حتى أعطته سمات «فرعونية» دائمة؛ وهى سابقة وردت لدى رؤساء مثل جورج واشنطن الذى ترك السلطة بعد فترتين رغم أن الدستور ساعتها كان يسمح بفترات أخري، وكذلك نيلسون ما نديلا فى جنوب إفريقيا الذى ترك الرئاسة بعد فترة واحدة رغم أنه بقى من الناحية التاريخية على الأقل رئيس كل الرؤساء الذين جاءوا بعده. «التأسيس» الذى لا يقل جوهرية جاء فى النظام الاقتصادى ليس فقط عن طريق الانتقال «من النهر إلى البحر» كما أسلفنا فى مقالات سابقة؛ أو استئناف عملية التنمية بعد توقفها تقريبا خلال أربع سنوات هبط فيها معدل النمو إلى أقل من 2%، وإنما باعتبار الحقيقة ولاشيء غيرها هى مدخلنا لدخول الاقتصاد من خلال تعويم الجنيه المصرى حتى يكون له سعر واحد وليس أسعارا متعددة، وسعرحقيقى وليس سعرا يقوم على نزيف الموارد القومية. التغيير الكبير ما بين القديم والجديد هو أنه فى الجديد تم التوقف عن خداع الذات المصرية ومواجهة حقائق اقتصادية مرة حتى يمكن المضى قدما فى تنمية حقيقية وغير زائفة أسعارها حقيقية وأرقامها حقيقية ومواردها ونفقاتها حقيقية. هذا الخروج من الزيف إلى الحقيقة مثل نقلة كيفية فى تناول الدولة الاقتصادي. والآن فإن تقييم الحال فى مصر والمحاسبة عليه يمكن أن يقاس استنادا إلى «رؤية مصر 2030» التى سوف تحدد مدى التقدم الجارى وحجم القصور فيكون التغيير والتبديل.ثلاثة موضوعات أخرى جرى فيها تجاوز القديم بشكل ملموس: أولها علاقة الدولة بالدين والتى بدأت بالحديث عن تجديد الفكر «الدينى» و«بالثورة الدينية» التى وقعت على عاتق المؤسسة الأزهرية وكان فى ذلك فتح كبير من حيث إدراك المعضلة الكبرى للدين الإسلامى فى العالم المعاصر وظاهرة الإرهاب المنتشرة فيه. ورغم أن الأزهر يظل هو المؤسسة الدينية الأولى فى البلاد إلا أن باب الاجتهاد فُتح؛ وفى منتدى الشباب العالمى المنعقد فى شرم الشيخ الأسبوع الماضى فإن الرئيس السيسى طرح بقوة حقيقة التنوع والتعددية الواقعة فى الدين الإسلامى وليس الجمود والبعد الواحد المفضى إلى التطرف. كانت استضافة «الأزيدية» ـ آية بشارـ التى جرى الاعتداء عليها مع أهلها واغتصابها مع سبيها صرخة من أجل الإنسانية، وذودا عن دين امتهن نزاهته جماعات من المجرمين المتطرفين. وثانيهما الموقف من المرأة التى لم تكن فقط شعلة ثورة 30 يونيو، وإنما قلب الحرب الضروس ضد الإرهاب بما قدمته من شهداء وجرحى للوطن، وإنما أيضا فى جهودها من أجل البناء. فى القديم فإن المرأة المصرية حصلت على بعض الحقوق من التعليم إلى حق الانتخاب والترشح إلى العمل إلى الوزارة والسفارة؛ ولكنها الآن باتت مرشحة لقيادات تنفيذية بحجم الشركات العامة، إلى المحافظة، ولم لا رئاسة الوزراء. ولكن القضية ليست فقط المناصب أو الثروة، وإنما فى المكانة الاجتماعية والحصول على حقوقها المشروعة فى شرع الله وفى القانون أيضا. وثالثها الشباب الذين كانوا هم واجهة الثورة الأولى التى سرقها منهم الإخوان، وقلب الثورة الثانية التى قسمتهم بعد ذلك بين من يريدون «التظاهر» طوال الوقت، وهؤلاء الذين يريدون الانخراط فى مسيرة بناء للوطن. هؤلاء الأخيرون دخلوا عملية تدريب كبرى من خلال البرنامج الرئاسي، وحوارات أكبر عبر مؤتمرات للشباب محلية وعامة لكل شباب الوطن وأخيرا دولية. الخلاصة أن الجديد يخرج من رحم القديم ويتجاوزه، ربما كان ببطء ولكن السرعة تكتسب مع الإنجاز.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف