أشرف عبد الشافى
بين ساراماجو وأشرف الخمايسى.. ضاعت فلوسى
ماذا لو اختفى الموت؟.. هكذا تبدأ رواية «انقطاعات الموت» للكاتب البرتغالى العظيم ساراماجو، فماذا لو أصبحت الحياة بلا نهاية؟ وقد حدث! فلم يأتِ عزرائيل وغابت آلهة الموت وتحولت المدينة بأكملها إلى بشر معلقين بين السماء والأرض، حتى أولئك الذين تهشمت رءوسهم تحت عجلات السيارات ظلوا على قيد الحياة! وبحرفية المبدع العالمى ينقل الصورة على النحو التالى: «فى اليوم التالى لم يمُت أحد، تلك حقيقة مؤكدة، ولأنها تُناقض قوانين الحياة، فقد أثارت قلقًا هائلًا ومبرّرًا جدًا فى عقول الناس.. علينا أن نتذكر أنه فى الأربعين مجلدًا من تاريخ العالم لم تحدث مثل هذه الظاهرة ولو لمرة واحدة، لم يحدث أن مرّ يوم كامل بساعاته الأربع والعشرين، بنهاره وليله، دون أن يقع موت واحد لمريض، أو سقوط قاتل، أو انتحار ناجح.. ليس ثمة موت واحد، ولا حتى من حادثة سيارة.. بدا الأمر كما لو أن (آلهة الموت) العجوز بأنيابها الحادة قد قرّرتْ التخلى عن حصتها هذا اليوم».
الذين قرأوا الرواية التى أصدرتها سلسلة الجوائز بالهيئة العامة للكتاب، وصعدوا بخيالهم مع الفكرة البديعة، يصعب عليهم أن يجدوا نسخة تشبهها من بعيد أو من قريب، ومنذ أيام اشتريت رواية بستين جنيهًا اسمها «ضارب الطبل» للكاتب أشرف الخمايسى، وبينما كنت أتصفحها فاحت روائح فكرة ساراماجو بين سطورها الأولى، فالأم تحذر ابنها من الزواج بفلانة بنت فلان، لأن عمرها سينتهى بعد عشرين سنة، والأب يصارع الوقت قبل وفاته المحددة لينقذ وَلدَيه من صراع مؤكد على الميراث، وحفّار القبور يعمل بشكل منتظم فى إعداد وتجهيز المدافن المطلوبة! والحكاية أن جهازًا تم اختراعه يحدد موعد وفاة البشر باليوم والساعة، ويُسجل ذلك فى بيانات رسمية بعد أن طبقت الدول الكبرى القانون واشترطت خانة لموعد الوفاة!
ومن أقصى الصعيد ومن تحذيرات الأم لولدها ننتقل فجأة إلى الطفل «آساك» الذى خضع لجهاز الفحص العمرى وتم تحديد عمره بخمسة أيام فقط، وها هو العالم كله يتابع القصة فى هذا المقطع.. «فى اليوم الخامس خلت شوارع مدن العالم من المارة ومن السيارات، وتحولت المدن إلى ما يشبه المجسمات الهندسية العملاقة، لا حياة فيها، حتى الطيور انسحبت من سماواتها، بل إن الريح ركنت خلف الجبال البعيدة فتجمدت أشجار الأرصفة والحدائق، وصارت كأنها مجسمات بلاستيكية، شاشات ما يزيد على سبعة عشر ألف قناة، مجموع القنوات التليفزيونية التى تبث على برامجها فى كوكب الأرض كانت تقوم بعرض صورة واحدة لا تحيد عنها، وجه «آساك أدريان» ذى البشرة الرقيقة والشعر الأصفر الغزير برغم حداثة مولده، عريّه الملائكى، وعينيه التى تمنى مليارات البشر لو تبقيان منفتحتين على الحياة».
لا أستطيع القول بأن التشابه بين المقطعين كعمودين لفكرتى الرواية عند ساراماجو والخمايسى «سرقة»، فالأفكار على قارعة الطريق كما يقولون، لكننى حزين على الستين جنيهًا اللى دفعتها فيها، فماذا يضيف إلىّ كاتب يمسك بذيل فكرة خيالية من هنا أو هناك ثم يحولها إلى طماطم و«يفعص» فيها بأصابع خشنة! لم أكن فى حاجة إلى إعادة تدوير الفكرة، ولم تستطع لغة أشرف الخمايسى حمل الفكرة الجميلة والسير بها بخفة كما فعل «ساراماجو» الذى رأى ماذا فعل غياب الموت وانقطاعه عن المدينة، فصنع حالة من الخيال الساخر الجميل وراحت لغته تتقافز حتى من خلال الترجمة البديعة لصالح علمانى، حيث امتلأت ممرات المستشفيات بالمئات من المرضى المعلقين بين الحياة والموت.. واستنفد الأطباء كل الحيل، والمرضى لا يموتون! ودور رعاية المسنين أو «الأفول السعيد»- كما سماها «ساراماجو» فى الرواية- تصرخ هى الأخرى من عدد النزلاء الذين كانوا فى انتظار موت يرحمهم من قسوة الحياة، وشركات التأمين وقعت فى حيرة كبرى مع زبائنها الذين لا يموتون، والحانوتية أو مقدمو الخدمات الجنائزية أصبحوا بلا عمل، والناس لجأوا إلى الكنائس وصلوا للرب كى يعيد إليهم الموت، فنحن مدينون له باستمرار الحياة، وتلك هى فلسفة الفكرة فى الرواية، لكننى هنا فى «ضارب الطبل» وجدت نفسى أتمشى بين صفحات لا كسولة، لغة مُهجنة مخلوطة تشبه رجلًا صعيديًا مهيبًا بعمامة بيضاء يمضغ اللبان بميوعة! بدأت الرواية من الصعيد (الأقصر تحديدًا) حيث تجلس السيدة «مرضية عبدالودود صالح» وهى تقطع أعواد البرسيم لطيورها بالساطور، وراحت تحذر ابنها من الزواج من «رئيفة حسانى حسانين» التى ستموت بعد عشر سنوات فى حين موعد وفاته هو بعد خمسين سنة، فكيف سيعيش بلا زواج لمدة أربعين سنة؟ ويصر الابن «محمد أحمد حسين» على الفتاة التى اختارها ويذهب لخطبتها، ويصف الكاتب بيت العروس: «المندرة غرفة مستطيلة، واسعة، صُفّ حولها العديد من الكنب المُنجد بالمراتب والوسائد والمساند القطنية، غطيت بأكسية ذات ألوان فاقعة تلمع تحت اللمبات النيون البراقة..»، فأجد فى الوصف أجواء رواية «عقد الحزون» للكاتب خالد إسماعيل، وتظل أسماء الشخصيات الثلاثية والرباعية ترن فى أذنى كأنى أقرأ مقاطع من أعماله! فأمضى حتى أصل إلى عالم «ساراماجو» فأحزن أكثر على الستين جنيهًا اللى دفعتها لضارب طبل لم أستمتع بإيقاعاته المرتبكة.