ديك الجن من أصدقائى القريبين إلى نفسى، هاجر واغترب، إلا أنه لطين بلاده دنا واقترب، وهو من الساخرين العرب الذين يشار إليهم بالضحكات والطرب، حكى لى ذات صبح حكاية دارت أحداثها فى بلده، هل تصدقون أن هذه الحكاية بطلتها حُفرة! نعم حُفرة.. لا تتعجبوا أو تسخروا فحياتنا مليئة بالحُفَر، والغريب أنه بعد أن قص لى قصته اختفى لسبب غامض، ويبدو أن من حكى لأخيه عن حفرة وقع فيها.. ندخل فى الحفرة.. عفوًا فى الحكاية.. قال ديك الجن وهو يتمهل فى الحديث ويمط حروف كلماته وكأنه يتحسس طريقه:
كانت هناك حفرةٌ عميقة ومتسعة وكبيرة تقع فى عرض الطريق فى أحد الشوارع الكبيرة، ولذلك كثرت عليها حوادث السيارات، فارتفعت أصوات الاحتجاج، وتوالت وفود المواطنين إلى أعتاب المسئولين، وبعد كل احتجاج كان يصدر بيانٌ يدل دلالة جازمة على مدى اهتمام أصحاب الشأن بالقضاء على هذه الحفرة اللعينة.. فأصدر شيخُ البلاد وإمامها الأكبر فتوى بأن الحفرة مفسدة لعن الله من حفرها، وقام خطباءُ المساجد بتوعية الناس بمفاسد الحفرة ومفاسد الحافرين، ودار جدلٌ بين العلماء حول هذه الحفرة هل هى حرام أم مكروه؟. وسواء كان هذا أم ذاك فقد فهم الناس واتعظوا وبكوا من فرط خشوعهم وتقواهم، ولكن.. وآآآه من لكن.. بقيت الحفرة على حالها.
ثم حدث أن اهتم كبار رجال الدولة بأمر هذه الحفرة اللعينة فأسندوا دراسة الموضوع إلى لجنة علمية متخصصة، ثم إلى عدة لجان، وفى ذات صباح مشمس ومشرق شوهدت عدة شاحنات تفرغ حمولتها من مواد البناء قرب الحفرة، فحمد الناس الله وشكروا المسئولين شكرًا جزيلًا يوافى كرمهم العربى ومبادرتهم الحاسمة، وبدأ العمل على قدم وساق، إلا أن العمل توقف بعد لحظات، إذ جاء المحافظ وبصحبته موكب عظيم له أول وليس له آخر، ورافقه فى الموكب وزير الصحة، ثم قام بوضع حجر الأساس!.. حجر أساس ماذا؟.. انتظروا ولا تتعجلوا، فقد رُفِعت عندئذٍ فى المكان يافطة كُتب عليها: «هنا يُبنى المستشفى الحكومى لمعالجة ضحايا الحفر»! وبقيت الحفرة على حالها!.
وبالقطع لم يكن هذا هو الحل الأمثل، لذلك ثارت الصحف والقنوات الفضائية على بقاء هذه الحفرة، وقال الكل: إن هذه الحفرة تهدم كيان حضارتنا التليدة، فكان أن أقيمت المسابقات فى البرامج الفضائية عن أنجح وسيلة للقضاء على الحفرة، وتقدم المتسابقون ونال بعضهم جوائز مليونية، ونُشرت صور الفائزين على صفحات الفيس بوك.. ثم بقيت الحفرة على حالها!.
نامت قضية الحفرة بعض الوقت وخفت الاهتمام الإعلامى بها، ثم استيقظت قضية الحفرة فجأة على فرقعة اصطدام السيارات وتكسير أقدام العابرين، وشتائم المهشمين والمصابين من جرّاء الوقوع فى الحفرة، وكثر بالتالى عدد المطالبين بردم الحفرة وتسويتها، فتقرر اتخاذ إجراءات جديدة حاسمة لا يأتيها الباطل من خلفها أو من أمامها، وكان من ذلك أن شوهد بعض الخبراء والمهندسين يجوبون المكان بروية واهتمام وبحث وتنقيب ومعهم خرائط وملفات، ثم كان أن أقامت الحكومة الرشيدة الراشدة وفقا لدراسة جدوى محكمة ودقيقة مركز صيانة وورشة فنية حديثة وكبيرة لإصلاح السيارات التى تتلف من الوقوع فى الحفرة.. ولكن بقيت الحفرة على حالها!.
وبسبب عرقلة السير على الحفرة وبطء الحركة التى تتسبب فيها حفرتنا اللعينة واضطرار أصحاب السيارات إلى التوقف عندها أحيانًا لساعات طويلة خطر لرجلٍ من الذين وهبهم الله الحنكة والفراسة وبعد النظر وثاقب الرأى أن يبنى قرب الحفرة دكانًا فى قول مرجوح، وحانوتًا فى قول آخر، والثانى أرجح، كى يبيع فيه المرطبات لأصحاب السيارات المتوقفة رغمًا عن موتورها وشكمانها، وحذا حذوه رجلٌ آخر فبنى مطعمًا صغيرًا، وأقدمت شركة بترولية بعد ذلك على إنشاء محطة بنزين، وشرع آخرون من رجال الاستثمار الحر يخططون لبناء فندق ثم قرية سياحية.. وبقيت الحفرة على حالها.
ولكن زاد الطين بلة أن طبقة أبناء الشوارع برجالها ونسائها وأطفالها تنسمت أخبار الحفرة، فهرع إليها باعة اللبان والمصاصات والمناديل الورقية وأوراق اليانصيب، بالإضافة إلى رهط من الشحاذين والمعتوهين، ثم قدم رجل غريب وأفرغ شاحنة بطيخ على قارعة الحفرة وأخذ ينادى بصوت مبحوح «عالسكين يا بطيخ» وتبعه آخرون بعربات الخضار والفاكهة، وما لبثت عربات اليد أن احتلت جزءًا من الطريق الذى يجاور الحفرة.. وبقيت الحفرة على حالها!.
وقامت فى البلاد ثورة عظيمة قضت على الفساد وأطاحت بالرئيس الفاسد ووزير داخليته السفاح وبرلمانه وحكوماته وقدمتهم جميعًا للمحاكمات، وتشكلت وزارة جديدة رئيسها رجل طيب القلب، رقيق الوجدان، لا يحب الحُفَر، فعزم عزمًا أكيدًا لا رجعة فيه على ردم هذه الحفرة المزعجة، ولكن يبدو أن ثورة هذا البلد لم تستطع القضاء على البيروقراطية، فبقيت الحفرة على حالها.
واطمأن أصحاب المصالح على حفرتهم الأثيرة ومستقبلهم المشرق، فشيدوا منازلهم فى الطريق المؤدى للحفرة، ثم قامت الدولة رعاية لهم ببناء مجمع مصالح يجاور الحفرة به مركز بريد وهاتف لرجال الأعمال وأجهزة الكمبيوتر وشبكة اتصالات، وشوهد سماسرة بيع الأراضى يجوبون المكان ويتحدثون بالأرقام، وارتفعت لافتة عند آخر الحفرة عليها كتابة بخط عريض تدعو المؤمنين إلى التبرع من مال الله لبناء بيت الله فى ذلك المكان، وفى المقابل تجمع عددٌ من المسيحيين الطيبين وجمعوا مالا يكفى لبناء كنيسة كبيرة بجوار الحفرة، ثم تقدموا للجهات المعنية بطلب الحصول على تصريح لبناء الكنيسة، إلا أن مجموعة من السلفيين تجمعت وأخذت تهتف: «الجامع والحفرة لنا، والكنيسة إن أمكنا» وبقيت الحفرة على حالها وهكذا وبرعاية الله تم إنشاء مجتمع جديد حول الحفرة.. فبقيت الحفرة على حالها!.
وتقدم بعض البرلمانيين بمشروع قانون لإنشاء مدينة حول الحفرة تُسمى «مدينة الحفرة العربية» وبالفعل صدر القانون وأُنشئت المدينة، ولكن لم تبق الحفرة على حالها، فقد طلب شعب مدينة «الحفرة العربية» الحصول على حقهم فى الحكم الذاتى، ولا يزال الأمر معروضًا على جامعة الدول العربية، والأمم المتحدة، والآن يرقد الأخ ديك الجن صاحب حكاية الحفرة فى المستشفى، فقد أصيب بكسور مضاعفة وتهتكات متعددة من جراء وقوعه فى الحفرة وهو فى الطريق إلى بيته، طيب الله ثراه وأسعده فى الدار الآخرة.