الدستور
ماجد حبته
عفاريت الأسفلت!
استلفت العنوان من فيلم كتبه مصطفى ذكري وأخرجه أسامة فوزي، وقام ببطولته محمود حميدة. وكان الوصف يخص سائقي الميكروباص، لكنه طمع فيه كل سائقي السيارات بمختلف أنواعها، خصوصًا في وجود «جهات» أسهمت (وتسهم) في تحضير العفاريت القدامى، وتقوم بتشجيع الجدد، وتقاوم محاولات صرف هؤلاء وهؤلاء، لأنها تستفيد من الـ«عفرتة»!.

عفرتة العفاريت، تسببت في تصادم ٢٤ سيارة، ملاكي ونقل خفيف وميكروباص، على طريق «بنها - شبرا» الجديد. سيارات الإسعاف نقلت المصابين (٣٩ مصابًا) إلى المستشفيات القريبة، لتلقي العلاج اللازم، وقوات الحماية المدنية رفعت آثار الحادث، وعادت الحركة المرورية إلى طبيعتها. لكن لا ينبغي أن يمر هذا الحادث، بالذات، كما مر غيره، لأنه يؤكد بوضوح أن الدكتور سعد الجيوشي كان على حق حين قال إن تحسين مستوى الطرق سيؤدي إلى زيادة الحوادث. وهذا بالضبط ما حدث في الطريق الجديد، المطابق للمواصفات القياسية العالمية.

حوادث الطرق، لها ثلاثة أسباب رئيسية، غير الفرعيات والتفريعات. وهناك دراسات علمية عديدة أرجعت ٨٠٪ منها إلى سلوكيات قائدي السيارات، و١٢٪ منها إلى عيوب بالسيارة، و١ إلى ٢٪ عوامل جوية، و٥٪ عيوبًا هندسية لشبكة الطرق. لكن لدينا إحصائية تقول إن العنصر البشري (أو قائد السيارة) مسئول فقط عن ٦٤٪ من الأسباب، وردت في دراسة صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وزادت فيها نسبة الحالة الفنية للسيارة إلى ٢١.٩٪، بينما كانت نسبة حالة الطرق ٢.٤٪ فقط. وما يجعلك تشك في كل النسب وفي الدراسة كلها زعمها أن السيارات الملاكي مسئولة عن ٣٦.٨٪ من الحوادث، تليها سيارات النقل بنسبة ٢٧.٨٪، ثم سيارات الأجرة بنسبة ١٨.٩٪. وطبعًا، هذا الكلام لا يصدقه عقل، ويتعارض مع الدعاء الشائع: «يا رب النقل يموت»!.

التشكيك في النسب لا ينفي أن الجميع، جميع السائقين، يتفقون أو يتشاركون في سلوكيات سلبية منها الرعونة والاستهتار واللامبالاة، مع بعض العادات السلبية، كالتحدث في التليفون المحمول، أو القيادة تحت تأثير المخدرات. وكنا سمعنا عن قيام الجهات المعنية بإجراء تحاليل للكشف عن تناول المواد المخدرة لسائقي سيارات النقل، مع وعد بأن يشمل التحليل سائقي سيارات الأجرة والملاكي فيما بعد. ولا أعرف لماذا لم تستمر تلك التحاليل. أما الأسباب التي تعود إلى الحالة الفنية للسيارة فمنها انفجار الإطارات، عدم كفاءة الفرامل، و... و.... وكلها ترجع إلى عدم الصيانة الدورية أو الكشف على السيارة من وقت لآخر، «استرخاصًا» من صاحبها أو قائدها، وأيضًا بسبب غياب الرقابة. ولدينا طبعًا طرق غير مؤهلة للسير عليها، وتتسبب في وقوع كوارث، لكن إصلاح الطرق وتجاهل الأسباب الأخرى قد يؤدي إلى كوارث أكثر وليس العكس.

كان الدكتور سعد الجيوشي يحكي لزميلنا جمال عنايت، في ٢ نوفمبر ٢٠١٤ عن جولته في أوروبا وأمريكا، للتعاقد على أنظمة صيانة وتحسين مستوى الطرق، وقال له الجملة التي جعلته ضيفًا على مائدة السخرية والتهكم لأسابيع وشهور. قال الجيوشي: «لو أصلحنا الطرق ستزداد الحوادث». ولما سأله «جمال» مندهشًا: «يعني لما تصلحوا الطرق الحوادث حاتزيد؟!، أجاب رئيس هيئة الطريق والكباري، وقتها: أيوه.. حاتزيد.. لازم يا أفندم، أمال إيه؟! لأن الطرق حاتبقى أحسن وحاتبقى أنعم وحاتبقى أكثر جودة في سطح الركوب. فالسرعة حاتزيد، و«العشوائية» هيّ هيّ، فالحوادث حاتزيد. ده نمرة واحد.. نمرة اتنين، يا أفندم، وده السؤال المهم: هو إحنا عايزين نوقّف الحوادث؟! ولاّ إحنا بـ«نهجّص» كلنا في الكلام، وفيه «حد» له مصلحة.. ومصلحته دي، أهم من الحوادث؟! أنا أؤكد لحضرتك، إن فيه بعض المصالح بتتكسب من عدم وجود نظام».

خريج «الفنية العسكرية»، الحاصل على الدكتوراه في هندسة الطرق، تولى وزارة النقل بعد أزمات واجهها عندما كان رئيسًا للهيئة العامة للطرق والكباري، دفعته للاستقالة. وكان تفسيري وقتها أن سبب الاختيار يعود إلى كفاءته، وإلى كونه الأكثر معرفة ودراية بالمشروع القومي للطرق، أحد أهم منجزات الرئيس عبدالفتاح السيسي وحكومتي إبراهيم محلب وشريف إسماعيل، وكان من المتوقع أن يستمر حتى يتم الانتهاء من المشروع. لكن تم استبعاده لأسباب لا تزال غير معروفة. وبقيت أسئلة أخرى بلا إجابات حول أسباب اختياره وزيرًا من الأساس بعد استقالته من الهيئة العامة للطرق والكباري!.

نعود إلى العفاريت وعفرتتهم، لنقول إن عدم وجود دوريات أمنية أو كاميرات أو رادارت لتسجيل المخالفات، مع عدم تفعيل قوانين المرور الخاصة عمومًا، وتحديدًا ما يتعلق منها بالسرعات المقررة على شبكة الطرق، مع غياب رجل المرور وشبه انعدام الرقابة الأمنية، مع عدم تقدير قائد السيارة للمسئولية، صار طبيعيًا أو معتادًا أن يتم خرق القانون، وأن يتنافس الجميع على تجاوز السرعات المقرّرة، وعلى الدخول من اليمين. وبالتالي تكون المحصلة الطبيعية مزيدًا من الدماء على الأسفلت.

الحل أراه بسيطًا، لكن تطبيقه ليس كذلك. تخصيص طرق لسيارات النقل الثقيل أو على الأقل فصلها عن بقية السيارات، وإجراء تحاليل دورية (ومفاجئة) للسائقين، مع التأكد من اشتراطات أمن ومتانة السيارات وصلاحيتها الفنية، وتشديد الرقابة على الطرق، بزيادة الأكمنة وتركيب كاميرات أو رادارات. والأهم من ذلك كله هو قطع رقبة ذلك «الحد» الذي له مصلحة، في استمرار الحوادث، وتطهير المؤسسات أو «المصالح»، التي تتكسب من عدم وجود نظام. ولو سألتني من هو ذلك «الحد»؟ أو ما تلك المؤسسات أو «المصالح»؟ سأقول لك: اسأل الدكتور سعد الجيوشي!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف