المصريون
جمال سلطان
هوجة شيرين كشفت المستور !
مشكلة بعض من يديرون شئوون البلد الآن أنهم ما زالوا يحاولون استخدام أدوات "سيطرة" ذهنية وأمنية وإعلامية قديمة ، وغير قادرين على استيعاب فروق الزمن والخبرة والوعي لدى الشعوب ، وخاصة بعد ثورة التقنية وعالم الانترنت والسماوات المفتوحة والتواصل الإنساني غير المسبوق بين الأمم والشعوب ، والذين يستلهمون تجربة عبد الناصر لا يدركون أنه حتى لو كان عبد الناصر هو الذي يحكم اليوم لاضطر لاستخدام أدوات أخرى وأفكار أخرى غير تلك التي كانت تستخدم في الستينات .
قضية المطربة شيرين هي القضية التي شغلت الرأي العام في مصر أمس ، وامتلأت بها الفضائيات الرسمية والخاصة بصورة مذهلة ، حيث لا توجد قناة فضائية إلا وعقدت لها محاكمة مطولة في برامجها وبتوسع مقصود ومط في الكلام وانفلات تمثيلي في الأعصاب الوطنية ، في الوقت الذي كانت مصر تواجه أخطر أزماتها على الإطلاق فيما يتعلق بمياه النيل ، حيث انتهت المفاوضات المصرية الإثيوبية السودانية للفشل ، وأصبحنا أمام الأمر الواقع ، فرطنا في حقنا في مياه النيل ، ووقعنا على اتفاقيات أهدرت مكتسباتنا وأضعفت موقفنا ، وأصبحت مصر على أبواب أزمة مياه لعدة سنوات مقبلة ستهلك الحرث والنسل ، وبدأ الناس يتساءلون : ماذا فعل الرئيس ؟ ، وبدأ بعض أصحاب القرار في البلد يحاولون البحث عن وسائل أخرى للتعويض ، مثل إعادة تدوير مياه المجاري أو تحلية مياه البحر ، فيما يعطي إشارة استسلام كاملة للمستقبل المظلم الذي أوصلوا البلد فيه .
بدلا من أن تنعقد المناقشات والمحاكمات الإعلامية لمن تسببوا في إهدار حقوقنا التاريخية وسوء إدارة الملف الأخطر في مصر حاليا ، وهو أخطر من ملف الإرهاب نفسه ، تم شغل عقول الناس وعواطفهم بأن مطربة محدودة الثقافة والتعليم "نكتت" على النيل أمام جمهورها "الأجنبي" بطريقة غير لائقة وقالت أنه يصيب بالبلهارسيا ، فقامت الدنيا ولم تقعد ، بينما تم منع أي حديث عن ضياع النيل نفسه ، والمستقبل الغامض والخطير الذي ينتظر الشعب المصري كله ، وقد كشفت المطربة شيرين عبد الوهاب في بيان اعتذار لها عن النكتة السخيفة ، أن تلك الواقعة كانت قديمة وفي إمارة الشارقة في الإمارات العربية المتحدة وليست في لبنان ، وأنها لم تحدث أمس ولا هذا الأسبوع ، وإنما كانت منذ أكثر من عام ، وهي تتساءل عمن ادخرها منذ هذا التاريخ واحتفظ بها ، ثم فجرها أمس أمام الرأي العام ، أو كما ورد بالنص في بيانها : (هذا الفيديو الذي أصاب أبناء وطني بالصدمة من حفلة في الشارقة منذ أكثر من عام و لن أبحث وراء من إحتفظ به كل هذه المدة ليظهره الآن و في هذا التوقيت) ، وهو سؤال ذو مغزى بالفعل ، فإذا كانت الواقعة قديمة ، منذ حوالي منذ أكثر من عام كامل ، لماذا تم تفجيرها أمس ، وإخراج هذا الشريط ، ومن صاحب المصلحة في هذه "اللعبة" ، ولماذا فعل ذلك ، وما هو مقصده ، وتحديدا كان السؤال أو الغمز واللمز في سبب ظهور هذه الواقعة في نفس اليوم الذي أعلن فيه عن فشل مفاوضات سد النهضة وتساؤل الناس عن مستقبل أكلهم وشربهم وحياتهم وما إذا كان السيسي قد أخطأ في إدارة هذا الملف .
هذه التساؤلات كلها ليست من بنات أفكاري ، وإنما هي الأسئلة التي انتشرت انتشارا هائلا عبر صفحات التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية ، وطرحها عوام من الناس والبسطاء ، كما طرحها أساتذة جامعات وأكاديميون ، كما طرحها كتاب وصحفيون وأدباء ، كما طرحها نشطاء وسياسيون ، مختلف شرائح الشعب طرحت هذا التساؤل ، بما يعني "انكشاف" لعبة قديمة وبالية في التضليل الإعلامي ، لم تعد تصلح في هذا الزمن .
الناس ، أيضا ، أعادت إحياء ذاكرة الإعلام المصري ، وما قدمه عن النيل وتلوثه وتسببه في أمراض السرطانات والفشل الكلوي والبلهارسيا وغيرها ، كما استحضروا حملات التوعية الرسمية التي كانت تقوم بها الحكومة عبر وسائل الإعلام لنصح الناس بتجنب مياه النيل حتى لا يصابوا بالبلهارسيا ، وشهير هو الإعلان الذي كان يقدمه الفنانان الراحلان : محمد رضا ، وعبد السلام محمد ، رحمهما الله ، وكانت فيه عبارة شهيرة : طول ما بندي ضهرنا للترعة (النيل) عمر البلهارسيا في جسمنا ما ترعى ، ويتساءلون : ماذا قالت شيرين أكثر مما كانت الحكومة نفسها تقوله قبل ذلك ، وأعيد نشر عشرات التقارير الصحفية التي تتحدث عن تلوث مياه النيل بدرجة خطيرة وتسببها في الكثير من الأمراض ، ومعظم تلك التقارير نشرتها الصحف ذاتها الموالية للرئيس والتي تهاجم شيرين الآن لأنها قالت أن النيل ملوث .
الحملة على شيرين وصلت إلى حد قرار من نقابة المهن الموسيقية بوقفها عن العمل في مصر وإحالتها للتحقيق وعدم الاعتداد باعتذارها ، كما تم تحويلها إلى المحاكمة العاجلة ، كما تم وقف بث أغانيها في جميع القنوات الفضائية المصرية خاصة الرسمية ، وطبعا ستقوم الصحف القومية ـ بحسها الوطني العالي ـ بمقاطعة أخبارها تضامنا مع حملة تأديبها ، لكني أثق أن ذلك كله سيتم طيه بعد فترة ليست طويلة ، وسيتم نسيان الأمر ، وستتم ترضيتها ، وتعود المياه لمجاريها في علاقتها مع الإعلام والنقابة والغناء والسلطة والأجهزة ، لأنه لم يكن المقصود هي ، ولا المطلوب قطع رقبتها ، فقط تم توظيف "نكتتها" في "عملية نوعية" في لحظة ما وأزمة ما ، ينتهي كل شيء بنهايتها .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف