محمد ابو الفضل
عندما تنحرف المقاومة عن مسارها
تظل المقاومة العربية مؤثرة مادام بقى الاحتلال الإسرائيلي، فلا أحد يجرؤ على المطالبة بالتخلى عنها تماما، لكن الأصوات ترتفع من هنا وهناك إذا انحرفت عن مسارها، واتخذت لنفسها أبعادا إقليمية، من حيث التدخلات والطموحات والعمل وفقا لأجندة لها علاقة بحسابات دول أخري.
الأزمة التى يواجهها حزب الله فى لبنان حاليا لها علاقة وثيقة بهذه المسألة، فقد كان الالتفاف كبيرا حوله وقت أن خاض معارك متقطعة ضد الاحتلال الإسرائيلي، واضطر أعداؤه فى حرب صيف 2006 إلى الاصطفاف بجواره، أو على الأقل لم يعلنوا اختلافهم السياسى معه فى أثناء العدوان الغاشم على جنوب لبنان.
يومها خرج حزب الله بمكاسب متنوعة وتحول إلى رمز وأيقونة للمقاومة والتحدى والصمود، فى زمن تقلصت فيه هذه المعاني، وعندما انحرف عن هذا الطريق وفكر فى توجيه سلاحه إلى اللبنانيين وكاد يسيطر عسكريا على بيروت فى مايو 2008، بدأت الصورة تهتز والمخاوف تتعاظم. ولم تلتفت قيادة الحزب جيدا إلى ذلك، وأخذت تناور للتملص من مناقشة مصير سلاحه، بذريعة أن هناك قطعة من أرض لبنان لا تزال تحت الاحتلال الإسرائيلي، وهى مزارع شبعا المختلف حول هويتها مع سوريا.
كلما ضاق الحبل حول رقبة الحزب، كان يجد فرصة للتنصل من تصفية الحسابات المتأخرة معه، خاصة تلك التى ربطته بكل من دمشق وطهران، ووجد ضالته فى الأزمة السورية، وتدخل فى كثير من تفاصيلها العسكرية، بحجة الدفاع عن لبنان ومنع امتداد شرارات الحرب إليه، وانخرط بشكل مباشر إلى جانب إيران، ولعب دورا مهما فى مساندة النظام السورى وصموده فى وجه معارضيه.
تطورات الحرب وتعرجاتها حولت حزب الله إلى رقم كبير تتجاوز تأثيراته حدود لبنان، الأمر الذى أقلق إسرائيل وحلفاءها وجعلهم يفكرون جديا فى قصقصة أجنحته، تارة عبر عملية سياسية تتعاون فيها الولايات المتحدة وروسيا، وأخرى من خلال عملية عسكرية تجهز على قوته الرئيسية، وثالثة بتأجيج الفتنة الداخلية، ووسط هذه التقديرات لم تتفاعل دوائر لبنانية وعربية كثيرا، لأنها تدرك أن العواقب ستكون مخيبة للآمال.
المشهد تغير عندما شعر حزب الله بأن قوته تعاظمت والحرب السورية ضخت فى شرايينه دماء جديدة وتحالفه مع إيران أصبح مكشوفا، بل اعتبر الخطاب السياسى لقيادة الحزب أنه أحد جنود طهران، ويقف معها فى جميع حروبها العقائدية، فى لبنان والعراق وسوريا واليمن، من هنا بدأ الحزب يبتعد تدريجيا عن الدائرة العربية، فى وقت يعيد فيه أقرانه من شيعة العراق النظر فى علاقتهم مع إيران ويحاولون استعادة اللحمة مع بعض الدول العربية.
الربط بين أهداف حزب الله ومرامى إيران لم يعد خافيا، بعد توالى اتهامه بالعبث فى اليمن لمصلحة الحوثيين المدعومين صراحة من إيران، وهى معركة تخوضها طهران لزيادة تحكمها فى مفاصل الأمن القومى العربي، الذى تفاخر أحد قادتها به، ملمحا إلى سيطرة بلدانه على أربع عواصم عربية دفعة واحدة، وكان يقصد بيروت وبغداد ودمشق وصنعاء.
الأزمة التى دخلها لبنان بفعل الاستقالة المفاجئة لرئيس الحكومة سعد الحريرى الأسبوع الماضي، تقف خلفها تفاصيل كثيرة، لكن تظل العلاقة المتنامية بين حزب الله وإيران سببا أساسيا فى تفجيرها، واعتبرتها أوساط عديدة أنها علامة على التجهيز لضربة قاصمة لظهر الحزب، وبداية عد تنازلى للتخلص من قوته المتمركزة فى لبنان والطامحة لمد بصره خارجها، وهو ما يشير إلى تصعيد قريب يغير من جغرافية منطقة أخفقت الأزمة السورية وانتخابات كردستان العراق وحربى اليمن وليبيا فى قلب خريطتها الديموجرافية.
الدور الدبلوماسى النشط الذى تقوم به مصر حاليا لتحاشى المزيد من التصعيد فى غاية الأهمية، لأنه نابع من مسئوليتها العربية ودورها الإقليمى لتجنب الدخول فى متاهات جديدة، وتصب جولة سامح شكرى وزير الخارجية فى الأردن والكويت والإمارات وعمان والسعودية، فى هذا البعد، وتوحيد الجهود لمواجهة التضخم الإيرانى فى المنطقة، والبحث عن أدوات سياسية لكبح جماح حزب الله، وتفويت الفرصة على من يريدون تحقيق هذه الأهداف بالوسائل العسكرية.
المنطقة لم تعد تتحمل حربا يجد فيها البعض ملاذا لمآربه السياسية والعسكرية، لأن اندلاع شرارتها فى لبنان أو غيره، وبمعرفة إسرائيل أو تحريض من غيرها، سوف يؤدى إلى تداعيات وخيمة، تحقق ما فشلت فى الوصول إليه الحرب السورية.
ما يظهر من ملامح استقطاب بين قوى متصادمة مذهبيا هو حرب لتكسير العظام بامتياز، يرى البعض أن الخطوط الدبلوماسية أصبحت متقطعة ونافذة الحل العسكرى مناسبة لطموحاته، دون إدراك أن الحصيلة سوف تكون وبالا على إيران وحزب الله وكثير من الدول العربية، الأمر الذى يحتم المزيد من التريث، لأن تشابك الخيوط السياسية وتعقيد العلاقات الإقليمية وطبيعة الأدوار الأمنية المتداخلة لبعض القوي، من العوامل التى تضاعف من صعوبة التنبؤ بنتيجة مرضية نهائيا.
المنطقة تعيش بالفعل فوق صفيح ساخن، ونقطة البداية تكمن فى البحث عن آليات مؤثرة لعزل إيران وتهميش دورها، ولن يتحقق ذلك دون تفاهمات مع قوى دولية نافذة، بعدها يتم التفكير فى فصم العلاقة بين طهران وحزب الله، الذى سيظل قويا مادامت بقيت الحليفة إيران قوية.
التجربة مع حركة حماس الفلسطينية ماثلة للعيان، فقد اضطرها المصير القاتم الذى واجهته جماعة الإخوان إلى الابتعاد خطوة عنها، وإدخال تعديلات على الوثيقة التاريخية للحركة، كما أن المقاطعة العربية لقطر عقب اتهامها بدعم الإرهاب قضمت جزءا من الحيوية السياسية والإعلامية والاقتصادية التى توافرت لحماس، ناهيك عن سد الأنفاق من جهة مصر، وكلها خطوات قادت الحركة للقبول بمصالحة فلسطينية والتسليم بما حاولت الفكاك منه فى مرات سابقة.
عندما تنحرف المقاومة عن مسارها وتضفى على تصوراتها وتحركاتها مضامين خفية، عليها أن تتحمل المواقف الحاسمة لتغيير توجهاتها عنوة، فأحلام القوى المحلية العابرة للأوطان انتهى زمانها.