المصريون
جمال سلطان
الخطر الحقيقي على مصر الآن
الأزمة الخطيرة التي تكشفت في ملف سد النهضة الأثيوبي ، وحديث وزير الخارجية المصري عن أنه "فوجئ" بأن الحوارات امتدت كل هذه الفترة !!، والإعلان عن فشل المفاوضات ، واقتراب افتتاح السد وبدء التخزين وهو ما سيعرض مصر لكارثة مائية تمتد عدة سنوات قد تموت فيها ملايين الأفدنة الزراعية وتعاد هيكلة حياة المصريين بالكامل ، هذه الأزمة ليست الوحيدة التي نتورط فيها ونفشل بسبب سوء إدارة الملفات الأكثر حساسية في الوطن ، فملف الإرهاب هو الآخر تعرضنا فيه حتى الآن لمشاكل كبيرة وبدلا من السيطرة عليه خلال أيام أو أسبوع ، وبدلا من الخطاب الرسمي الذي كان يبشرنا بأن الإرهاب يلفظ أنفاسه الأخيرة ، أصبحنا أمام خطاب مختلف يمهد عقولنا لتوقع المزيد من الإرهاب وأن المسألة ستطول ، والملف الاقتصادي يمكنك تخيله لو أن التغطية الخليجية في دعم مصر بالوقود بجميع مشتقاته لعدة سنوات مقبلة ، وحزمة الديون التي تتراكم الآن لتعطي صورة وهمية عن احتياطي نقدي كبير ، والفشل شبه التام في إحياء السياحة والخراب الذي نجم عنه ، وانعدام أي رؤية جادة لخطط التنمية الحقيقية الصناعية والزراعية لحساب شره بناء العقارات والمدن الجديدة التي تستنزف مقدرات البلاد ، كل ذلك كفيل بأن يجعل أي حريص على هذا البلد يضع يده على قلبه من المقبل من الأيام ، ويقول : ربنا يستر .
وأنا هنا لا أتحدث عن ملفات أخرى خطيرة ، مثل الانهيار في ملف حقوق الإنسان ، وهو ما اعترف به رئيس الجمهورية نفسه أمام العالم الخارجي وبرره بأن أمامنا تحديات أخرى كبيرة في الصحة والتعليم والإسكان والعمل ، وهو كلام صحيح قطعا ، ولكنه ليس مبررا لانهيار منظومة حقوق الإنسان أصلا ، ولكني أكتفي بالإشارة إلى الملفات الحيوية التي تتعلق بمصير كل مواطن ، كل شخص ، أيا كان موقعه ، مع النظام أو ضده ، فكل المظاهر من حولنا تقول أن البلد تتجه إلى أزمة مفصلية ، لا يمكن لهذه العشوائية السياسية والإدارية أن تثمر إنقاذا للبلد من حزمة ملفات معقدة وداهمة ، بل هي ستعقد المعقد وتضيف أزمات أخرى ، لا أشك أبدا في أن المنظومة الحالية لن تكمل ، هي غير مؤهلة لكي تكمل ، هذه قدراتها وإمكانياتها ، بغض النظر عن التقييم السياسي أو حتى الموقف من شخص الرئيس ، ولا أشك أبدا أننا "سنغرز" عند مرحلة قد لا تكون بعيدة ، وسينظر الجميع خلفهم وحولهم ويتساءلون : ما البديل ؟ .
الخطير هنا أن مصر حتى هذه اللحظة لا تملك البديل ، ولو تصورنا أن رئيس الجمهورية قرر التنازل اليوم عن السلطة وتفويض الشعب لاختيار البديل ، فلا يوجد ـ من الناحية العملية ـ البديل ، ولا أقصد هنا فقط البديل الشخص ، وإنما البديل كشخص ومنظومة ، بكامل أبعاده ، وأولها الرؤية التي تبنى عليها الدولة ، أو يعاد بناؤها عليها ، وبرنامج إصلاح المؤسسات والأجهزة ، وجه نظرك هنا أو هناك لن تجد كتلة سياسية شعبية ضخمة متجانسة وتملك قدرة على إقناع الشعب والمؤسسات بقدرتها على إنقاذ الوطن أو قيادته ، نحن هنا لا نهجو أحدا ولا يعنينا أساسا التقليل من شأن أحد ، ولكنها الأمانة التي تقتضي أن نصارح أنفسنا بها الآن قبل أن "نغرس" ، شتات سياسي يأكل بعضه بعضا ، وينهش بعضه عرض بعض ، ويشكك بعضه في إخلاص أو وطنية بعض ، وقوى سياسية مشغولة بالثأر السياسي مع السيسي ونظامه أكثر من انشغالها بالوطن نفسه وبدائل إنقاذه ، استنزاف معنوي ووجداني وسياسي في لهاث دائم للدفاع عن معتقلين أو موقوفين ظلما ، يكاد يغرق فيه الجميع ولم تعد هناك مساحة كافية للتفكير في "منظومة" بديلة ، كتل سياسية دينية أخرى غارقة في الدفاع عن شرعية رحلت ، فشلوا في الحفاظ عليها أو إنجاحها وأظهروا عجزا واضحا عن إدارة دولة بحجم مصر وسمحوا لآخرين باستدراجهم والتلاعب بهم حتى انتهى كل شيء ، وكل مشروعهم الآن هو إفشال أي حديث عن مشروع جديد أو مستقبلي والثأر ممن عارضوهم من قبل ، معارضة منقسمة على نفسها وبينها ما يشبه الحروب الأهلية الصامتة ، وشرخ 2011 ، و2012 ما زال قائما وربما أصبح أسوأ وأكثر مرارة ، ولا يوجد أي قاعدة إجماع على مشروع وطني متكامل ، بيان خطة عمل بديلة ، توافق على حد أدنى من الشراكة السياسية أو خطط إنقاذ الوطن ، توافق فكري وإنساني ولو في حدوده الدنيا ، لا شيء .
مصر مجتمع ضخم ، مائة مليون إنسان ، لهم احتياجات ضرورية وحالة وعلى مدار اليوم والساعة ، في الغذاء والدواء والتعليم والسكن والعمل والمواصلات والأمن والعلاقات الخارجية المتوترة إقليميا والمعقدة دوليا ، وهي لا تحتمل المغامرة أو "لكاعة" النخبة ، وقد ينفلت الأمر كله إذا لم يكن هناك بديل حقيقي جاد وناضج ومتجانس وقادر على المبادرة والعمل في أي لحظة يجد فيها نفسه أمام المسئولية الوطنية ، فهل نملك هذا البديل ؟ هذا هو السؤال ، الوطني والأخلاقي .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف