المساء
مؤمن الهباء
الآلهة التي سقطت
عندما سقطت الشيوعية في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي علت نبرة الغرور الأمريكي.. وساد اعتقاد عام بأن التفوق الأمريكي قد بلغ مدي لا ينافس.. ليس علي المستوي الاقتصادي والعسكري فحسب.. وإنما علي مستوي الإنجاز العقلي والفكري أيضاً.. وظهرت كتابات ونظريات تؤصل لهذا التفوق وتؤكده.. كان أبرزها نظرية "صدام الحضارات" لأستاذ علم السياسة صمويل هنتنجتون ونظرية "نهاية التاريخ" للأكاديمي الأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما.
وغني عن البيان أن كلتا النظريتين وما شابههما من أطروحات ومقولات تصب في خانة تكريس الهيمنة الأمريكية.. وليس مصادفة أن جاء هذا التطور التاريخي متزامناً مع صعود الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن الذي ادعي علناً أنه يحكم بتفويض إلهي ويخوض الحروب بوحي من السماء لتحقيق مشيئة الرب.. وأيضاً مع صعود اليمين المتطرف في أوروبا.. ومهما اختلفت الأسماء فإن هذا التيار الذي صعد مع الألفية الثالثة كان تيار "آلهة الرأسمالية" الذي علا وتجبر.. وبلغت ثقته بنفسه أقصي مدي.
لكن الذي حدث في أواخر عصر بوش الابن أسقط هذه الآلهة من فوق عروشها.. فقد اجتاحت العالم أزمة مالية طاحنة كانت ضحيتها الأولي الولايات المتحدة ذاتها.. وكتبت هذه الأزمة إقراراً بفشل النظام الرأسمالي.. وبدت حاجة العالم ملحة إلي إبداع نظام بديل.. أو علي الأقل نظام معدل.. يضمن مزيداً من الاستقرار للأسواق.. ومزيداً من العدالة في توزيع الثروات.
قال زعماء الدول السبع الكبري سنحاول تغيير قواعد الرأسمالية.. وظهرت كتابات عديدة تتهكم علي نظرية نهاية التاريخ وتؤكد أن الرأسمالية الأمريكية انتهت في العالم ولم يعد مقبولاً من أحد ادعاء التفوق اللانهائي.. وأنه في مجال الإبداع الفكري لا يحق لكائن أن يضفي القداسة علي إنجازه.. أو يزعم أنه امتلك الحقيقة التي لا تقبل المراجعة.
في ذلك الوقت صدر كتاب "الآلهة التي سقطت" وفيه يشرح المؤلفان لأوي إيليوت المحرر الاقتصادي لصحيفة "الجارديان" البريطانية ودان اتكيسون المحرر الاقتصادي في صحيفة "ميل أون صنداي" الأسباب التي أدت إلي الوقوع في براثن الأزمة المالية الطاحنة التي تعصف بالعالم.. ابتداء من مارجريت تاتشر ورونالد ريجان وصولاً إلي جورج بوش الابن وعصابة المحافظين الجدد من حوله.
وكان من الطبيعي أن تتخذ الحكومات الغربية إجراءات حمائية تلجم بها الرأسمالية المتوحشة.. وفاجأت الولايات المتحدة الجميع بإجراء دراماتيكي لم يسبق له مثيل يقضي بتأميم جزئي لأكبر 9 بنوك أمريكية.. واعتبر هذا القرار تراجعاً عن النهج الأمريكي الثابت في تقديس الرأسمالية بكل ما تحمل من مفردات الخصخصة والسوق الحرة والعرض والطلب.
وعندما جاء أوباما إلي الحكم لم يعد أمامه طريقاً للإنقاذ غير تهذيب التوحش الرأسمالي بإصلاحات تحمل أشكالاً جديدة من العدالة الاجتماعية.. وظهرت هذه الإصلاحات في قوانين العمل والتأمين الصحي والمعاشات.
لقد انتهي الإيمان الكامل بالرأسمالية في عقر دارها.. وعلينا نحن أيضاً أن نسقط الرأسمالية من عليائها.. وندخل عليها ما يصلح أحوالنا.. وبالتحديد نحن في أمس الحاجة إلي قوانين ثورية لتحقيق العدالة الاجتماعية وإعادة النظر في الخصخصة وضبط إيقاع السوق الحرة ومواجهة ارتفاع الأسعار وضبط مؤسسات التعليم التي تحولت إلي وحش كاسر يأكل ميزانيات الأسرة المصرية وتطوير التأمين الصحي ومظلة التأمينات.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف