الأهرام
د/ شوقى علام
الخلل فى تناول المفاهيم التشــــدد
يدور التكليف فى شريعة الإسلام على الرفق والتيسير ورفع المشقة والحرج؛ مراعاةً لأهلية المكلف واستطاعته البشرية حتى يُؤدِّى الناس ما عليهم من حقوق الله تعالى وحقوق العباد والخلق بطريقة لا تذهب بهم مذهب التشدد والغلو، ولا تميل بهم إلى الانحلال والتفلت، وبذلك كانت وصية النبى صلى الله عليه وسلم بقوله: «إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ، إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ»

ولا ريب أن محاولة الخروج إلى أطراف هذا الصراط المستقيم تتضمن الوقوع فى المهالك والفوضي، وهى بمثابة اختيار طريق الهوى الذى لا تقوم به مصالح الخلق ولا يُحقق مقاصد الاستقرار والعمران، فضلا عن كونها مذمومة شرعًا لمنافاتها مقاصد الشرع، لأن الدين غالب وقاطع لأى مظهر فيه إفراط أو تفريط، فلا يؤخذ بالمغالبة ولا يؤتى بتحمل الإنسان ما لا يستطيع تحمله إلا بمشقة شديدة، فطريقه إتباع اليسر والمقاربة، ومظهره السماحة وملائمة الفطرة النقية، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة -أول النهار- والروحة -بعد الظهر- وشيء من الدلجة - آخر الليل».

ورغم وضوح هذه المعانى وتلك المقاصد اختار أهل التطرف طريق التشدد والإفراط فحمَّلوا أنفسهم فوق طاقتهم تبرعًا من عند أنفسهم، متبعين فى ذلك ظواهر النصوص التى لا يقرأونها إلا من خلال المناهج الانتقائية والقراءات المجتزأة التى تأخذ بنص وتغفل الآخر، ومن ثَمَّ أفرزت تداعيات هذا التشدد والغلو آثارًا جسيمة وخطيرة على أنفسهم من جهة، ومن جهة أخرى على واقع الأمة التى تجلت فيه الفوضى وانتشر فيه الخلل فى المنهج استدلالا وتطبيقًا حتى اضطربت الموازين لدى عدد غير قليل من أفرادها.

لقد تقرر عند أهل الإسلام أن مسائل الشرع الشريف وأحكامه على قسمين: الأول: قسم انعقد الإجماع عليه وأصبح معلومًا من الدين بالضرورة، وهذا القسم لا تجوز مخالفته؛ لأنه يشكل هوية الإسلام، والقدح فيه قدح فى الثوابت الدينية المستقرة. والثاني: هو تلك المسائل التى اختلف المجتهدون من أهل العلم فى حكمها ولم ينعقد عليها الإجماع؛ فالأمر فيها واسع، واختلافهم فيها رحمة، ويجوز للمسلم أن يأخذ بأى الأقوال فيها من غير حرج يلحقه فى ذلك، وليس فى ذلك خروج عن الدين كما يدَّعى أهل التطرف والتشدد؛ لتبرير مواقفهم، فالمقرر فى قواعد الفقه أنه: (لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المجمع عليه).

ولا ريب أن من جملة من الأسباب التى أوقعت هؤلاء المتشددين فى هذا الخلل: أنهم قد عاملوا الظنى المختلف فيه معاملة القطعى المجمَع عليه، فضلا عن إدخالهم لآرائهم واختياراتهم مجال القطعى الذى يجب أن تلتزم به الأمة.

كما بالغوا فى التشدد فظهر مظهر آخر من مظاهر التنطع، حيث حملوا عامة الأمة على اتباع أحكام الورع والاحتياط دون مراعاة أن حد الورع وضابط الاحتياط أوسع من حد الحكم الفقهي، فإذا ترك المسلم شيئًا من المباح أو المسائل الخلافية تورُّعًا فإن هذا لا يُخوِّل له إلزام غيره بذلك على سبيل الوجوب الشرعي. والاحتياط المحمود عبارة عن ترك المكلف الأخذ بشيء قد اشتبه فى كونه منهيًّا عنه أو مأمورًا به، لا أن يصل هذا الاحتياط إلى حدِّ الوسوسة وإبطال العبادات وتوسيع دائرة سوء الظن والتفتيش فى عقائد الخلق.

وبذلك الخلل الواضح فى فهم طبيعة هذا الدين الحنيف حمل أهل التشدد والغلو الناس على اتباع أفكارهم المنحرفة واتخاذ مواقفهم المتطرفة وأحكامهم المتشددة، وإلا كان التبديع والتكفير من نصيبهم، فحكموا على الأمة بالضلال والكفر وحكموا لأنفسهم بـ «الغربة» و«ضياع الدين» فعاشوا فى عصر غير العصر، تحت وهم الدعاوى وكذب الشعارات التى يرفعونها، كالمحافظة على الهوية والعيش كحياة السلف وما كان عليه النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم وهم أبعد الناس عن ذلك.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف